لم ينقطع الناصري عن عمله الفني، بل ما يزال يؤثث غربته بجمال منقطع النظير في مرسم يأخذك إلى مشهد خلفي لجبل عمان، مرسم الناصري مزار لزوار جبل اللويبدة يمكث فيه منذ الصباح باندفاع شاب لم يزل يتلذذ بالأحمر المجاور للذهب والسماوي المرتكز على ترابية الارض.
في كل مرة أزوره أنا وأخي جهاد أرى في الناصري طاقة لا تنضب، حيث يسير بأشيائه إلى منتهاها في التعبير، فما إن ينجز مشروعا حتى يمكث في مشروع جديد على الطاولة التي شهدت أحاديث مهمة في الفن العربي.
فتجربة هذا الفنان تستحق كل التقدير والمحاولات لاستخراج مجموعة من الأسئلة المهمة في إشكاليات الفن العربي، لكننا في الأردن وللأسف نتقن فن العزلة والتمترس خلف مفاهيم ليس لها علاقة بالفن، فوجود الحراك الشكيلي العربي، وخصوصا العراقي، في عمان، مسألة ضرورية لا يمكن أن يكون لها امتداداتها إلا عبر التفاعل والانفتاح الكامل على هذا الفعل أو ذاك كون الفعل الثقافي فعلا انسانيا لا يتمترس خلف جغرافيا محدودة.
بعد سنين طويلة من البحث لدى الفنان الناصري صدر كتاب عن تجربته بعنوان "رافع الناصري – حياته وفنه"، وهو تأليف مشترك بين اثنين هما صباح الناصري ومي مظفر.
الكتاب الذي اشتمل على تجارب للناصري تتمرحل في السنوات الصينية والتجربة البرتغالية ومرحلة السبعينيات والثمانينيات وسنوات التسعينيات والألفية، إضافة إلى مقدمة عن الفن العراقي والبدايات.
فقد افتتح الكتاب صفحاته الأنيقة بكلمة للفنان الناصري يقول فيها: "متى أنهى الفنان لوحته دخلت التاريخ الشخصي والتاريخ العام، أي أنها أصبحت ملكا للمتلقي الذي سيراها اليوم أو بعد أعوام أو مائة سنة"، ويتابع بقوله: "كثرة التفاصيل أو قلتها ليست هي التي تكسب اللوحة شكلها النهائي... بل مدى عمق التعبير وإيصال العناصر الجمالية إلى مداها الأقصى".
فالذي تعطيك إياه صفحات الكتاب ذاكرة الصور التي تؤثث ذاكرة من نوع خاص.. ذاكرة تشير بشكل مباشر إلى حياة الفنان وتنقلاته ومداياته المعرفية المتنوعة، إلى جانب اهتمام الفنان بمرجعياته البصرية التي يرتكز عليها كتاريخ يقدم سياق وجود وتحولات مشفوعة بعافية الفن العراقي منذ البدايات، ففي فصل الفن العرقي الذي يتصدره تخطيط لفائق حسن العام 1937 لامرأة، يعطينا مفتاحا مهما لمرحلة التأسيس في مسألة الرسم ومفاهيم الأكاديميات في بغداد، وسبق ذلك مرحلة الملكية التي شهدت رسامين درسوا في أسطنبول، وعلى رأسهم عبد القادر الرسام.
تلك المقدمة المختصرة عن تاريخ تشكل الفن العراقي مادة غنية تحيلنا إلى تمظهرات ما زال تجري في تاريخ الفن العربي، هذا التاريخ الذي يستدرج مناخات تلك المراحل المشفوعة بالجدية والكدية للوصول إلى صورة الفن عبر مفهوم حضاري، والسبب هو مرجعيات الجغرافيا العراقية عبر التاريخ القديم والحديث.
ما يخص الناصري هو المؤشر المهم في جزئيات تجربة عريضة لسلطة الفن العراقي، وتجربة الناصري أنموذج مهم في طرائق تفكير الحياة التشكيلية العراقية، فقد كان ومنذ وقت مبكر خلال طغيان التصوير، الأقرب إلى التقليدية. كانت لوحته تذهب نحو مناخات مخالفة لما هو سائد من حيث البناء والمغامرة في الطرح، وربما أن حياة الناصري في عائلة متعلمة أسهم في نمو تلك المناخات، في طرائق تفكيره في العمل الفني، حيث كانت بدايات دراسته في معهد الفنون علامة واضحة على موهبة مهمة لها انثيالاته المستقبلية، وكانت تلك المرحلة مرحلة تحول في حياته عبر الانتقال من مسقط رأسه إلى بغداد التي كانت تعج بالحراك الثقافي والسياسي.
بعد ذلك جاءت مرحلة الصين، حيث اختلاف الثقافة والمشهد البصري بأكمله، فمن مشهد نسوي بغدادي امتلأ بالأثواب السوداء وتفاصيل الإيقاع الشعبي، إلى مناخات لونية جديدة حيث الألوان الزاهية كالأحمر والذهبي والأزرق والأسود. هذا الأمر أسهم في تغيير باليتة الفنان، وتمظهر ذلك في استخدامات الناصري للأزرق والاحمر والذهبي، ليتجاوز في الصين امتحان القبول، ويدخل في التخصص مباشرة على يد الفنان الصيني "لي خوا". وقد اتاحت له تلك المرحلة مادة خصبة لتجاوز ما هو سائد في بغداد آنذاك، فمنذ معرضه الأول في الصين كانت الصحافة ترصد تلك التجربة ليعود إلى بغداد العام 1963، فكانت المرحلة الواقعية من المراحل التي تدلنا على أصالة هذا الفنان الذي مر بشكل طبيعي بالتخطيط والرسم ورصد المحيط والحيز، حتى وصلت تلك التجربة إلى تجليات في اختزال العمل الفني في جمل ذكية شكلت مناخا خاصا به.
ان البرتغالية لدى الناصري هي المؤشر الجوهري في تجلياته الفنية، بدءا من عمل الكولاج العام 1967، فقد تمظهر تفكيره الفني جليا في بناء العمل والاختزال والذهاب إلى تحوير الحروف ومعالجاته للكولاج. وحين دخل الناصري عالم الأكريليك لم تتغير الرؤيا، بل أعانته تلك المادة المائية على تحقيق رغباته في العمل الفني، فكانت جماعة الرؤيا الجديدة مناخا مناسبا، ومنهم صالح جميعي وضياء العزاوي وهاشم سمرجي ورافع الناصري. فقد جمعتهم رؤى ذات طابع أبعد مما يحدث، فلم يتوقف الناصري في محطة بغداد، بل انتقل عبر إقامات ومشاركات واسعة في بلدان عديدة منها إسبانيا والبرازيل والأرجنتين وفرنسا، إضافة إلى دول عربية. وفي كل مرة يحل فيها كان ينال احترامه الفني، لما يمتلكه من مهنية واحترام لعمله الفني.
ما يزال الناصري يحاور مناخاته الفنية في مغامرات مهمة بين التشكيل والشعر، بين التراثي والجديد، ولم يستقر إلا في عمله الفني. إنه الفنان الدؤوب الذي أخذ على عاتقه جدية من نوع خاص أمام سقوط كثير من الفنانين في مناطق لا تليق بهم. أما هو فظل قابضا على الفن كأسلوب حياة وكطريقة للتعبير عن أحلام الإنسان في الوجود.
الكتاب الذي نشرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر، مادة مهمة لمعرفة جوانب من تجربة عربية ذات فضاء عالمي. ولا بد من التنويه هنا إلى ضرورة الاستفادة من وجود الناصري في عمّان كخبير في مجالات عدة. فرغم البؤس في تفكير بعض المتسلقين، لكن عمان ستبقى واحة غنية بهؤلاء الإخوة العرب الذين أعطوا لعمّاننا كل الحب والجمال