الطفل الحافي" .. اسطوانة موسيقية لسيف كرومي تروي الغربة والحنين
الشبكة العربية العالمية - يتجه سيف كرومي، عازف العود العراقي، المقيم في ألمانيا، ونجل المسرحي الكبير الراحل عوني كرومي، نحو التأمل في قطعه الموسيقية التي يؤلفها، ويعزفها على عوده، منفرداً، متأنياً، وممتلكاً لتقنيات العود، مجرباً أحياناً وتقليدياً احياناً أخرى.
من الرائع حقاً أن يتمكن الانسان من تحقيق حلمه في اي مجال. هكذا كان سيف كرومي يحمل حلمه بين ثنايا روحه وعقله حين التقيته في ألمانيا قبل سنوات وكان في السنة الثانوية الاخيرة يفكر جدياً في تعلم العزف على العود، بينما كان يتحضر للدخول الى احدى الجامعات الألمانية خارج برلين.
واليوم، كان فرحي كبيراً بهذا الشاب المجتهد والمقدام، الذي حقق حلمه، وقد استمعت الى اسطوانته الجديدة "الطفل الحافي، والتي يبدو انها ليست العمل الاول، كما لاحظت من خلال البحث في الانترنت. ومع هذه الاسطوانة، عدت بالذاكرة الى سنوات خلت، حين كنت اقدم حفلاً في برلين وكان هو المقدم لفقرات الحفل، شاباً غضاً طموحاً، لا يتوقف عن الحركة وشرارة الفن كانت تلتمع في عينيه، التقيته ووالده الراحل الكبير عوني كرومي، وزوجته في منزلهم الذي كان يعج بالكتب، الامر الغير مستغرب على مثقف مثل الراحل.
فجأة جلب سيف آلة عود، بالكاد كانت تصدر صوتاً يشبه ما تصدره اوتار العود عادة، بسبب من نوعيته غير المتقنة. وكانت بوادر ألحان تدور في مخيلته يدندنها لي ويحزن لعدم قدرته على تنفيذها على العود. وبلهفة المشتاق، انهال عليّ سيف بسيل من الأسئلة، حول طريقة العزف والنوتات والدوزان والالحان والمقامات وغيرها كمن كان يود تعلم كل شيء في تلك الساعة. وأسر لي بأنه يفكر جدياً في الذهاب الى مدرسة العود التي أسسها نصير شمة في مصر، ويبدو ان هذا ما حدث بالفعل، وبعدها بسنوات قرأت عن نشاط سيف في العزف على العود واصدار اسطوانات، فكنت افرح بيني وبين نفسي لأن هذا الشاب رغم كل الظروف حقق ما كان يصبو اليه، واليوم ها هي اسطوانة "الطفل الحافي" تحمل افكاره وتوقيع أنامله وبدأ يرسم اسمه وطريقه بين اسماء ليست بالكثيرة في العزف على الالة، لكنها بالتأكيد اسماء مؤثرة وبعضها مخضرمة وباتت راسخة في مسارح العالم ولدى عشاق الالة.
في "الطفل الحافي" يمزج سيف في مقطوعات من تأليفه، تهويمات من اشجان متراكمة، ويعلن عن افكار تتزاحم على الأوتار، بنقرات تسيل سيل الشلال، وتفور فوران المياه في عين صافية، ترحل أبداً في مسارات بسيطة متوالية يطعّمها ببعض تقنيات عزفية من اساسيات تبرز الاتقان والدقة خاصة في قلب الريشة، واحياناً تتضح الحاجة الى تركيز الدوزان والدوسات في مواضع قليلة ربما تحتاج الى تأنّ وتركيز، لكن رغبة سيف في وضع افكاره وتسجيلها تسبق ربما اي رغبة اخرى.
وتبدو واضحة تقنيات العزف التي تتميز بها المدرسة العراقية من قلب الريشة وتنقل الاصابع على الاوتار وكذلك المقامات او المسارات النغمية المتغلغلة في اعماق كل عراقي، لا بد ان تظهر ملامحها على نغمته وروحه سواء قصد استخدام هذه النغمة او تلك، ام لم يقصد الامر بالذات، رغم انها قد تبدو نابعة من احساس خاص.
ليس ثمة شك بأن العازف سيف كرومي يحاول إظهار شخصية خاصة به، وربما في هذه المجموعة من القطع الموسيقية ما يختلف قليلاً عما سبق وسمعنا في بعض معزوفاته السابقة، ويحاول تصوير او تفسير عنوان القطعة من خلال سمات العزف واللحن. فالعنوان بمثابة المنفذ الى مسار القطعة كما في "تأمل"، مثلاً، القطعة الشرقية بامتياز، هناك الكثير من الوقفات ولحظات الصمت والبطئ بما ينبئ عن حالة تأمل وتفكير معينة، وفي قطعة "النهر" يصور مجرى النهر بسيله السريع المتوالي وصوت المياه تجري ليتشكل رنين صوتها الجميل على الصخور، وكما في حالة "ترحال" البعد، والسير والتعب وفي "الطفل الحافي"، نستمع الى دبدبة، وحبو، ولعب ودلع.
"أم حيدر" الأمومة، الدفء، العطاء، تشتعل بين وجع وفرح وغيره، و"شمعة" تذوب رويداً، فيما"مزاج النساء" يظهر فيها تناقضات عبر نوتات متباعدة صعوداً وهبوطاً، ومتسارعة متباطئة وان بقيت خلال فترة طويلة من دون تطويرا و تصاعد يذكر.
"بين القصب"، نستمع في نقر الوترين، الجواب والقرار، معاً، وفي نوتات نابعة من جمل لحنية راسخة في الذاكرة من التقاليد الشرقية، يطورها سيف حسب مشاعره. وهي تفعل الفعل نفسه لدى اي مغترب بعيد عن وطنه، تأسر سيف، فكرة الغربة، او تؤثر فيه بشكل او بآخر، او رغبة العودة والتعرف الى بيئة موجودة حصراً في بلده الاصلي، العراق، ونقصد بها بيئة "الاهوار" الشهيرة بنبات القصب، والتي لم تتسن الفرصة لجيل سيف المغترب من رؤيته والتعرف الى خصوصياته، بسبب بعد هذا الجيل واجيال اخرى ارتحلت بعده، حيث انتشروا في بلاد الاغتراب. هكذا يأخذنا العنوان والنغمة معاً "بين القصب" ليرسما لنا لوحات عصية على النسيان، وان لم ترها الاجيال بأم العين، لكنها ماثلة في الوجدان من الصور والافلام وبعض الوثائقيات ومن أفواه وتوصيف اهل المنطقة، وما قرأناه في كتب الدراسة والتراث والشعر وغيرها.
سيف كرومي امامك الابواب مشرعة لتصبح واحداً من تلك الاسماء التي يعتز بها العراق ويفخر كما العالم العربي المغترب والمقيم، وايضاً مسارح العالم وأذن الغرب التي تميز الجميل من الردئ والجاد من التجاري المبتذل، وكل أملنا بشباب عرب وعراقيين امثالك لكي يقدموا ثقافتنا وهويتنا وحضارتنا الى الغرب.
الشبكة العربية العالمية |