على الرغم من المكانة الكبيرة التي يتمتع بها العود في المجتمع العربي فإن النظرة إليه كأداة موسيقية ظلت بدائية وغير موضوعية وبقيت أشبه بأسلوب الأصفهاني في كتاب الأغاني (في تناوله لآلة العود) مقتصرة على الوصف دون التحليل والإشارة دون الشمول والإيجاز في موضع التعمق. وهكذا ونتيجة للنظرة الفنية السطحية وانسياقاً وراء التنظيرات غير المتخصصة نشأت وترسخت في أذهان العامة والخاصة مفاهيم ومصطلحات تخص العود ولا تمُت إلى واقع الحال بأي صلة وإن أصابت حيناً فأنها تخطئ في كثير من الأحيان … وتسربت هذه المفاهيم وانتقلت من جيل إلى جيل حتى غدت وكأنها من المسلمات وأصبح الخروج عنها أو حتى مناقشتها يواجه بالهجوم والتشنيع وبذلك ركدت حركة التفكير العلمي وجمدت جهود البحث الموضوعي في الموسيقى العربية عموماً وحول آلة العود على وجه الخصوص ، وغطـّـت في سُبات عميق منذ عدة قرون وحتى يومنا هذا، ونتيجة لذلك سادت فوضى التنظير وأدلى كل من هب ودب بآرائه وزج كل ذي رأي برأيه من غير دليل أو سند علمي أو حتى عملي. وبسبب النظرة الاجتماعية المتخلفة شهدت آلة العود نماذج من المتعاملين معها أساءوا إليها أكثر مما نفعوها… وزجوا بها في متاهات أدت إلى انعزال العود ووضعه في موضع الكماليات أو في خانة الترفيهيات… وبسبب أسلوب التعليم الذي ظل سائداً حتى الوقت الحاضر انتقلت الكثير من المعلومات والمفاهيم الخاطئة من جيل إلى جيل واختلطت الأمور وبسبب إنعدام الدراسات الموضوعية الجادة وخاصة التاريخية والنظرية لم يشهد التاريخ المكتوب لآلة العود تراكم نظري معرفي (صحيح نظرياً على الأقل) .
وواجه كل من سعى إلى دراسة العود- كأداة موسيقية متكاملة - مصاعب وعقبات… فمنذ بداية شيوع فكرة التعلم الموسيقي (وخاصة تعلم العود) كان أكثر مدرسّي العود هم ممن يُجيدون العزف على العود بدرجات متفاوتة وربما كان البعض منهم يتمتع بمعرفة نظرية جيدة ولكن الأغلبية لم يكونوا كذلك وبالنتيجة شاع أسلوب التعلم السماعي المبني على عزف الأغاني فقط، وعادة يذهب أكثر المدرسين إلى استعجال النتيجة ويصبح تعلُم عزف الأغاني غاية بحد ذاتها بدل أن يكون وسيلة بل إن الأمر تطور إلى حد أن أصبح العود بحد ذاته وسيلة للاستمتاع واللهو . لا يستطيع أحد أن ينكر ضرورة وجود ناحية ترفيهية في الموسيقى عموماً والعود خصوصاً ولكن أن تكون هذه الناحية هي المسيطرة وهي الغاية فذلك ما لا يمكن قبوله، ولكن هذا ما حصل، وحيث إن اسلوب تعلم عزف الأغاني هو السائد فأصبح بالنتيجة وسيلة لتخريج نوعية من المتعاملين مع آلة العود عزفاً لا تمتلك معرفة نظرية كافية كما أن التركيز على الأغاني فقط ومع الحاجة للعمل وضغوط الحياة الاقتصادية أدى إلى عدم التركيز على أساسيات العود، وبالتالي ضياع الشخصية الفنية والسمات التعبيرية للآلة.
ومع بداية هذا القرن ونتيجة لدخول الآلات الأوروبية إلى الموسيقى العربية عن طريق الأغاني ظهرت مشكلة أخرى، فأمام التقنيات الصناعية الفائقة والقدرات الجيدة لدى عازفي تلك الآلات انقسم المتعاملون مع آلة العود عزفاً إلى ثلاثة فئات، واحدة تأثرت بما سمعت وشاهدت من فنون العزف والأداء وطرق التكنيك الأوروبي فآثرت التقليد - كغاية - دون التمحيص وأخذ ما يلائم وترك غير الملائم ، وفئة أخرى وأمام الإنبهار الذي صاحب دخول الآلات الأوروبية للغناء العربي آثرت - مستكينة ومستسلمة - أن تتقوقع داخل دائرة الرفض لكل ما هو جديد بغض النظر عن إمكانية الاستفادة والتطوير عن طريق الاحتكاك والتفاعل والتحاور ولجأت إلى الإغراق في المحلية والانغلاق الذهني، أما الفئة الثالثة فقد بقيت بين بين فإن تقدمت نحو هؤلاء خطوة اتجهت نحو أولئك خطوات وبقيت متذبذبة وغير مستقرة، وكانت المحصلة النهائية في غير صالح آلة العود كآلة وقضية وبدل من أن يؤدي الاحتكاك بالآلات الأوروبية (وحتى الموسيقى الأوروبية ذاتها) إلى حدوث نوع من الحركة الإيجابية تساهم في توجيه الموسيقى العربية عموماً وآلة العود بشكل خاص نحو آفاق أرحب وأفضل ضاعت جهود كثيرة في نقاشات وجدل والنتيجة النهائية كانت مزيداً من تراجع دور العود كآلة موسيقية ودوره كقضية ثقافية قومية.
أما على الجانب الآخرفنجد أن آلة الگيتار (Guitar)- التى تعتبرواحدة من الآلات المنتمية إلى فصيلة العود - قد وصلت صناعتها إلى مديات ممتازة حيث تم تثبيت أبعادها بدقة وكذلك شكلها بل وحتى الزخارف الجمالية المستعملة على الوجه وذلك بعد دراسات فيزيائية صوتية حيث من المعروف إن أي إضافة إلى وجه الآلة يساهم في التأثير على الصوت كما تم تثبيت عدد ونوعية وأبعاد الجسور الخشبية الداخلية التي تقوم بمهمة تثبيت الوجه وتدعم وتُقوي الصوت النهائي، كما تم تغيير كامل في ميكانيكية المفاتيح التي كانت من الخشب وتشبه مفاتيح العود حالياً والناتج أصبح أكثر دقة وأسهل إستعمال ويتوافق مع أساليب العزف التي تطورت بشكل كبير، كما تم تثبيت جسور إضافية لكي تتوافق مع التطورات التقنية للعزف وتم الإستغناء عن استعمال الريشة واستُعيض عنها بالأصابع لكي تتوافق مع أساليب عزف الموسيقى الأوروبية وتركيزها على البناء العمودي كما تم تطوير صناعة نوعيات ممتازة من الأوتار المناسبة لأساليب ونوعيات العزف ووصل الأمر إلى حد صناعة نوعيات من الآلات لنوعيات خاصة من العزف فهناك گيتار- فلامنكو (Flamenco ) وگيتار- كلاسيك (Classic ) وگيتار (Bass ) وهكذا وكل واحد من هذه الگيتارات له صناعة مختلفة وأُسس محددة وهكذا الامر بالنسبة لبقية الالات . ولغرض تعليم الأطفال بدأت تظهر أحجام مختلفة من الآلات تتناسب مع حجم أصابع وأجسام الأطفال كل ذلك لجعل هذه الآلات متوافقة ومتوائمة مع الأطفال وتم تثبيت وقياس كل قطعة وكل جزء بكل دقة وفي كل الآلات الموسيقية سواء الهوائية أو الإيقاعية أو الوترية ، وأصبحت مقاييس عالمية أي أنها تستعمل في كل أنحاء العالم، وبذلك تستطيع أن تشتري آلة گيتار أو آلة كمان أو بيانو مصنوع في الصين أو مصنوع في أميركا أو اسبانيا وأنت مطمئن إلى دقة المقاييس ونوعيات الصنع (طبعاً مع الفارق في المواد المستخدمة وجودتها وذلك ما يحدده السعر).
أما بالنسبة لصناعة العود وبالرغم من كل المعطيات والانجازات الصناعية من ناحية المواد والوسائل والتقنيات فقد بقي الحال كما كان عليه منذ مئات السنين فالمواد نفس المواد والأشكال الخارجية شهدت فوضى وتخبط عشوائي في إضافة مواد غريبة (تستعمل عادة لزخرفة الوجه) أدت إلى تشويه الصوت الناتج واضعافه تماماً وبقيت أحجام الآلات غير ثابتة وعلى غير جدوى منطقية وبدأت تظهر نماذج رخيصة الثمن بائسة الصوت زادت الطين بلـّه، وفي الوقت الذي وحدت فيه أوروبا مقاييس آلاتها نجد لدينا أن الصانع الواحد يصنع آلتين مختلفتين شكلاً وصوتاً وأذكر أن واحداً من مشاهير صناع العود كان يتفق مع الزبائن على مبلغ معين من المال لصناعة العود وبعد اتمام الصنع فان وجده جيداً غير رأيه وطلب سعراً أعلى، وهذا يدل على أن الصانع (على الرغم من مستواه) لا يستطيع أن يحدد نوعية صناعته، وبسبب عدم وجود أحجام مناسبة للعود (كما هو الحال في الآلات الأوروبية) ابتعد الأطفال واليافعين عن تعلم الآلة على الرغم من أهمية البدء المبكر للتعلم ولم يتم حدوث تطور صناعي بالقدر المطلوب لتطوير القدرات الآلية والعزفية وربما يكون النموذج الوحيد الذي يمكن ذكره (كدليل على الدور الصناعي في تطور القدرات العزفية والأدائية) هو في تجربة الصانع الشهير محمد فاضل مع عازف العود منير بشير، حيث كان منير بشير يعاني من عدم تحمل آلة العود لبرودة الجو في أوروبا حيث كان يسعى لتقديم العود هناك وكان ذلك في العام (1957)، ولما عرض الموضوع على صانع الأعواد الأستاذ محمد فاضل حسين توصل الأخير إلى فكرة اشتهرت باسم (العود السَحـِبْ) وهو أن تـُـشَدْ أوتار العود إلى ظهر العود وليس إلى وجه (سطح) العود كما كان يستعمل (وما زال) ومنذ ذلك الوقت تميزت الأعواد العراقية بهذه الميزة واشتهرت في كل أنحاء العالم (وهذا دلالة على أهمية تظافر جهود الصانع مع العازف لتطوير الآلة). و.. للحديث بقية في الرسالة القادمة بإذن الله.. حتى ذلك الوقت أرجو أن تستمتعوا بموسيقى (waterfalls) وهي من التراث الموسيقي لباراغواي وتعني ( شلالات) أداء الفنان جميل بشير مع ثلاث عازفين من براغواي:
لزيارة الموقع:
|