ومن الملاحظات المهمة الأخرى والمرتبطة بالعود هي أن العمل الجماعي يكاد يكون مفقودتماماً حيث لا توجد هنالك جمعيات أو معاهد تعليم الصناعة أو اتحادات تساهم فياتاحة الفرصة أمام صناع العود في البلاد العربية للتلاقي والتشاور والتباحث وصولاًإلى تطوير الآلة وتبادل الخبرات ولبيان أهمية العمل الجماعي أذكر أنه ولأول مرة فيبغداد وفي العام (1976) تم تأسيس ورشة لصناعة الآلات الموسيقية مدعومة من قبلالدولة وعلى الرغم من الأخطاء والنواقص التي صاحبت ورافقت تلك التجربة فأنها أدتإلى ظهور عشرات الصناع المهرة للعود ولقد ساهم أولئك الصناع في انتشار صناعة العودوبالتالي المحافظة على تلك الآلة وتوفير الفرص في الحصول على عود وبأثمان مقبولةوضمن طاقة الراغبين بالإضافة إلى مبدأ التنافس المشروع في الارتقاء بتلك الصناعة،وفي بغداد الآن العشرات من ورش صناعة العود. ****
وعلى صعيد البناءالصوتي والتقني، ظل العود منذ القرن الماضي ينقسم بين نوعين 1 - الشائع وهو عود الخمسة أوتار وكان يُستعمل في البلاد العربية . 2 -العود ذو ستة أوتار وكان يُستخدم في تركيا .
بالنسبة للعود ذو خمسة أوتار كان المدى الصوتي الذي يغطيه هو ديوانين (أوكتافين) اثنين ونصف وبالنسبةللعود ذو ستة أوتار فإنه يغطي مساحة ثلاث دواوين (أوكتافات) وطبعاً هذه المدياتبالنسبة للعازف المتوسط المستوى، وبعد بدء فتح المعاهد الرسمية (كان أولها في إسطنبولفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر) ظل العود يُعامل كآلة لحنية يتم تعلمهالأغراض محدودة، وعلى الرغم من الوسائل التي أُتيحت من خلال الأسطوانات والفرقالموسيقية والعازفين الذين كانوا يزورون البلاد العربية وتركيا فلم يتم حصول التأثيرالمطلوب الذي كان يمكن أن يُؤدي إلى حدوث تطور في صناعة وأسلوب عزف العود وظلتأغلب المفردات الدراسية المستخدمة في تعلم العود في المعاهد الرسمية مقتصرة علىالنماذج الغنائية (أكثر هذه النماذج تركية) والتي لا تعكس أو تُبرز القدراتالتكنيكية لآلة العود. **** إن أهم تطوّر تقني حدث للعود في بداية القرن العشرين هو ما قام به (الشريف محي الدين حيدر) الذيغير من مفاهيم كثيرة تخص العود ومنذ مؤلفاته الأولى (كابريس 1- عام 1923) و(ليت لي جناح - 1924) و (كابريس2-1924) و (الطفل الراكض - 1926) و (الطفل الراقص - 1928) حيثُ أرسىأُسس أسلوب تكنيكي مُتقدم لم تعهد الأذان سماعه من قبل ولقد ساهم الشريف محي الدينحيدر - من ضمن ما ساهم - في توسيع المدى الصوتي الأفقي لآلة العود حيث أوصله إلىثلاث دواوين (أوكتافات) ونصف ، كما ساهم في تطوير أساليب استخدام الريشة و انفردبوضع الوتر السادس الغليظ أسفل الأوتار عكس الطريقة المتبعة وهي حسب التسلسل المنطقي.
ولقد ساهمت أخلاقيات الشريف محي الدين حيدر والتزامه وكفاحه في تقديم صورة مشرقة للفنان الملتزموالمخلص لموهبته ورسالته، كما ساهم الشريفمحي الدين حيدر عن طريق تأسيسه (معهد الموسيقى الوطني لدراسة الموسيقى العربيةو الغربية والذي تحول فيما بعد إلى معهد الفنون الجميلة) في بغداد عام1936 في تخريج نخبة من العازفين المهمين في تاريخ العود أمثال (جميل بشير)و(منير بشير) و(سلمان شكر) و(غانم حداد) وغيرهم. **** ومن ناحية أخرى لم تظهر حركة نقد موسيقى واعية وحقيقية في عموم الوطنالعربي وظلت بعض الصحف والمجلات - التي تسمى فنية - تقتصر في تغطيتها على المظاهرالبراقة والديباجات الإنشائية وأساءت إلى الذوق العام كثيراً بتركيزها على الأخبارالاجتماعية من طلاق وزواج الممثلين والممثلات والراقصين والراقصات والتقاط الصورالفاضحة جاعلة من معنى الفن واجهة براقة لتمرير صور وأفكار غاية في التخلفوالتدهور وبدأت تلك الصحف والمجلات تطلق ألقاب كاريكاتيرية على بعض الموسيقيينوالعازفين بشكل عجيب وقد أدت تلك الحيثيات وعلى مدى عشرات السنين إلى إشاعة أفكارخاطئة ومغلوطة تجاه كثير من الحقائق وتحت شعار 'الجمهور عاوز كده' تمالتعتيم على كثير من التجارب الإبداعية والطاقات والمواهب والكفاءات العربية التيكان يمكن لو أتيح أمامها المجال أن تفعل الكثير في تطوير آلة العود خصوصاًوالموسيقى العربية عموماً… **** ولعل من أهم الصفاتالتي حصل فيها خلط هو عدم التفريق بين مصطلح (العوّاد) وبين مصطلح (عازف العود).ان مفهوم العواد (بالنسبة للعزف) هو كل من يتعامل مع العود بطريقة فطرية ويقتصرأسلوبه على التقاسيم وترجمة الأغاني فقط وأود أن أوضح أن صفة (العواد) لا تعنيانتقاص أو هي ليست ســُـبـّه وبالعكس لقد شهد العالم العربي عوادين كبار ولكن الدراسة الجادةوالتقييم الموضوعي تُحتم علينا تسليط الضوء رغبة في اشاعة روح البحث العلميالموضوعي. ان تركيز (العواد)على أسلوب التقاسيم وترجمة الأغاني فقط ساهم في جعل العود في خانة الكمالياتوالترفيهيات ولم تتغلل آلة العود في حياة الناس معبرة عن آلامهم وأفراحهمومعاناتهم… عن أحلامهم وانفعالاتهم كما فعلت مثلاً آلة البيانو أو آلة الكيتار علىالرغم أن في العود من الامكانات والطاقات ما يجعلها تقف في الصف الأول من الآلاتالموسيقية وعلى مستوى العالم .
أما صفات ومميزات عازف العود فيمكن اختصارها بما يلي: أ) الموهبة الأصيلة والاستعداد الفطري للعزف. ب) معرفة عميقة (نظرية وعملية) بالنوتةالموسيقية. ج) دراسة عميقة مستندة الى استيعاب راسخ لعلوم للموسيقىالشرق أوسطية من ناحية: · الأجناس والسلالم الموسيقية . · الانتقالاتالنغمية . · الاساليب العزفية. · القوالب الموسيقية. · القوالب الغنائية. · المراحل التاريخية للموسيقى والغناء الشرق أوسطي. · دراسة حياة وأساليب عزف رُواد الموسيقى والغناءالعربي.
د) دراسة العلوم الموسيقية الغربية ( أو الإطلاععلى الأقل) من ناحية: · السلالم . · الهارموني . · الكونتربونيت. · القوالب الآلية والغنائية . · أساليب العزف . · دراسةالمراحل التاريخية . · دراسة حياةوأساليب عزف رواد الموسيقى والغناء الغربي والمؤلفين منهم بالذات. هـ) مستوى تكنيكي عزفي متقدم. و) أن يكون 'عواداً'بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى . ز) أن يكون قادراً على تقديم عزفمنفرد أمام جمهور كبير لفترة لا تقل عن ساعة كاملة مع السيطرة الكاملةوالتمكن والحضور الفني. ****
وختاما ً.. أود أن أروي هذه الحكاية التي تحمل الكثير من الدلالات والعبروهي تخص عازف گيتار كلاسيك (Classic) اسباني اسمه فرانشيسكو تاريگا (Francisco Tلrrega) يعتبر من مؤسسي المدرسةالحديثة في العزف على الگيتار ولقد سعى هذا الموسيقار الى تطوير الگيتار ونشره فيعموم أوروبا ومن ضمن ما سعى، قيامه بأخذ بعض القطع الموسيقية المكتوبة لآلةالبيانو وعمل إعداد (Arrangement) وتحويلها الى آلة الگيتاروكان ذلك في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وضمن سعيه هذا أخذ واحدة من القطعالمشهورة لآلة البيانو وهي (Asturias) للمؤلف الاسباني اسحق البانيز (Albéniz) وحولها الى آلة الگيتار وكانتالنتيجة من الروعة الى الحد الذي جعل المؤلف الأصلي للعمل عند سماعها يقر بأنهاعلى الگيتار أجمل منها على البيانو وقد ساهم ذلك العمل لوحده في توجه الألوف منمحبي الگيتار لتعلمه رغبة منهم في تعلم عزف هذه القطعة التي تستغرق عملية تحويلهابالنوطة الموسيقية عدة صفحات وكان ذلك بحدود عام 1909. وفي المقابل العربي استمع الفنان (فريدالأطرش) إلى هذه القطعة فقام بتقديمها بشكل بسيط جدا ًومختصر ونسبها إلى نفسهعلى أنها المقدمة الموسيقية لأغنية 'حكاية غرامي'..! **** حتى الرسالة القادمة بإذن الله أرجو أن تستمتعوا بموسيقى (Asturias) وهي كما أسلفت من مؤلفات المؤلف الإسباني (Isaac Albéniz ) ومن أداء عازف الگيتار (AndresSegovia). أرجو أن تذهبوا إلى الرابط التالي:
لزيارة الموقع:
|