كلية الفنون الجميلة – جامعة بغداد
لعل مجمل التأثيرات الخارجية أي كانت لا تنمو في النفس الا بمقدار ما تخصبها ردود الفعل الذاتية التي تختلف من شخص لاخر، من آن لان ..عند الشخص الواحد ثم ان هذه الردود الذاتية نفسها ليست الا تراكما حيويا من تفاعل الذات مع المؤثرات الموضوعية الخارجية وهكذا نجدنا مع كل شخص امام نموذج مستقل بعالمه وابعاده عن سواه لكنه على استقلاله ونموذجيته وليد التزاوج والتفاعل بين مختلف المؤثرات من داخل وخارج .
فالحياة الخاصة في فرديتها وابعادها النفسية والجنسية تخضع للرقابة بأشكال مختلفة ويشعر الفرد دائما انه امام سلطة يخاف منها ورقابة شديدة بحاجة ان يهرب منها .
ومن خلال الانتقالات من بنية اجتماعية الى اخرى فان الحياة النفسية غدت اكثر كثافة .. ولم تعد مستهلكة في احترام النماذج ،عندما يجد الانسان نفسه محكوما بالحرية ،مقذوفا الى ابعد من نفسه في صورة يمكن ان تأخذ شكلا سلبيا هو ليس اقل من رمز لتكامل مستقبلي مطلوب تحقيقه، وهذه الحياة النفسية الفردية او الجماعية التي لا يمكن ان تجد تعبيرها او تفتحها في اطر مجتمع يمشي نحو الانحلال تجد طريقها نحو الخيالي وابتكار الاشكال .
لقد اصبحت فلسفة الفرد الجديد هي ان لا تصبح مذهبا عاما يأخذها عن غيره او يفرضها على غيره انها عملية اختراع مستمرة في كل لحظة لذاته وبواسطة ذاته نفسها هنا تزول ثنائية الواحد والاخر لأن الواحد يستطيع ان يكون الاخر بالنسبة لذاته وبهذه الطريقة تتم مواجهة الفراغ ومواجهة الاشكال المعهودة وانهيار الاشكال المألوفة ، ويأخذ اللون مكان الشكل ويزول وهم اللامتناهي والمطلق والابدي. وبما ان عيوننا واذاننا وحواسنا المختلفة في الشم والذوق تخلق من الحقائق قدر ما يوجد على البسيطة من بشر فكل منا يخلق رؤيته للعالم وليس للفنان من رسالة غير ان يعيد في اخلاص تقديم هذه الرؤية بجميع الوسائل الفنية التي تعلمها ويستطيع استخدامها وكبار الفنانين هم اولئك الذين يفرضون على البشرية رؤيتهم الخاصة .
حيث تجد ذات الفنان حاجة مباشرة لنزع الاشكال وجعلها اكثر تعبيرا عما يختفي خلف العالم الظاهر الذي هو الاكثر قلقا للفنان نفسه ، ولما تكونه من انطباع لدينا عنه ، فنتاجه لم يعد يواكب المسيرة الفنية ويمكن تشبيه مثل هكذا انتاج بالفصامي الذي انقطع عن " مجموعة القيم التي يؤمن بها عامة الناس فهو بينها كالغريب الذي انقطعت به السبل فهو يحاول ان ينشئ لغة جديدة تقوم على الحذف حينا وعلى الابتداع احيانا اخرى " .
فالفنان يجنح الى نسق من الاشياء يخالف ما نرى وما نعرف من اجل الوصول الى حقائق مستقرة باقية ومن اجل ارتياد دفائن واسرار، لكن الطابع الاصلي لهذا الارتياد انه عالم متكامل مكتف بذاته مكتف بثرائه ، بفضل تعقده وتركيبه ومن ثم فالمنظورات في انفسها ليست اهلا وحدها لايجاد الدلالة او لكشف النسق المركب الذي يسيطر عليه مبدآن متآزران .
وبلغة علم النفس يمكننا القول ان للعمل الفني صلات بكل منطقة من مناطق العقل ، فهو يستمد فاعليته او طاقته الحيوية وتحديه المنطق من "الهي " التي تعد منبع ما اعتدنا تسميته الالهام وتعطيه "الانا" الكيان والصورة ،"الانا" التي تميل الى ان تجمع محتوياتها وعملياتها العقلية في مركب واحد وبذلك تولد درجات التنسيق الفائقة التي تحتاج اليها الانا الارقى في منتجاتها الناجحة .
والنتاج الفني مجهود يحاول تجاوز عقبة ما ،عقبة السلبية المنهارة امام تلقي رسالة غير متوقعة او اسيء فهمها عقبة الابتعاد اوالتشتت والتفرق الذي لا يستجمع مذاهب او طبقات او جماعات ، عقبة تغير معاني الاشارات عقبة كل ما يؤمن التواصل الكلي الذي لا يستطيع الفنان مهما كانت الطريقة التي يتبعها الا ان يحاول تحقيقها .
ان البحث التقني للأتصال بواسطة عنصر جزئي يدل على كل لكن لا يشكله ، هذا كله يجعل من العمل الفني نظاما شبه متمسك من النشاطات المثارة او الجلية الموجهة صوب التواصل الحقيقي وهذا ما يدعم النتاج بقيمة دينامية قد يجهلها المبدع نفسه ،هذا التعريف الجدلي يسمح بتعيين موضع الحاجز الحقيقي الذي يصطدم به نشاط الفعل الخيالي ، حاجز نستطيع ان نرده احيانا الى الم ما او مرض فيزيولوجي تم التغلب عليه او نقل الى اطار اخر ( ضعف الرؤيا عند غيريكو ، صمم غويا و بتهوفن ، مرض نيتشه العصبي ) لكن دون ان يتماثل هذا الحاجز بهذا المرض تماثلا تاما .
هذا الحاجز يمكن ان يكون وهو حاجز واع رغم تقنعه حاجز الطبقات الاجتماعية امام وصولية راسين الذي استعمل الشعر كوسيلة لتحويل طبقي كما فعل ذلك بيكار وحاجز متعدد الطبقات امام تفتح الفرد ، حيث سمحت الحوادث التاريخية والسياسية بهذا التفتح بشكل مباشر لكل انسان ( موقع المثقف بعد الثورة الفرنسية وهو يخترع الابطال القيصريين الذي يظمهم المجتمع مثل جوليان سوريل وفردريك موردر بامبريه ) .
ويستطيع ان يكون حاجز الحواجز التي نقلتها وتسامت بها الميتافيزيقيات الحاجز "في ذاته "حاجز اللاتواصل المطلق ، حاجز العبث والوحدة (هولدربين، كافكا) .
حيث ابتدع كافكا شكلا رائعا من السخرية الخيالية ينسج فيه الحلم من الحقيقة ليصور ثورة الفرد الذي يعاني من الوحدة والذي يكافح بلا امل ضد قوى الظلام المجهولة في عالم غريب عنه و يتحرك في نفسه توق عنيف الى الارتباط بالناس بشكل من الاشكال .
كافكا كان يعاني وحدة ، قاسية لم يكن يؤمن في اعماقه بالتقدم بل يؤمن بأن نفس الاشياء سوف تتكرر دائما وبأستمرار لذا عمد الى تغريب الواقع .
اما همنجواي فيشير في احدى قصصه الى الحوادث المؤسفة التي تقع في هذا العصر( الحرب القتل ، التعذيب ، الخوف ، القسوة…الخ ) وتتألف القصص من احداث صاخبة تجري في مكان يقع خارج الاحداث التي تحرك العالم وبعيدا عنها ، هذا الخارج البعيد (الوهمي ) هو ما يعتبره الكاتب وجوده الحقيقي يقول في احدى القصص التي تصف وصفا دقيقا احدى شخصياته وهو ينصب خيمته وحيدا في اعماق الليل ، وتصور فلسفة انسان يهرب من المجتمع : "كان قد اقام واستقر ولا شيء يستطيع ان يمسه بسوء ، انه مكان ملائم لاقامة خيمة وهو هنا مكان مناسب ان بيته حيث اقامه ، الظلام مطبق في الخارج وكان في الداخل اقل قتامة".
هذا يبين ان الفن بقدر ما تجذر عميقا في الحياة اليومية لم يستطع في تعبيره الاكثر بساطة ان يبدو فقط مجرد وهم، وهذا يعني ان النتاج الخيالي لم يعد يقوم في سذاجته المبتكرة او المجردة لكنه يميل الى الانشحان بقوة مستعارة او مقتلعة من الواقع الاكثر تفاهة والاكثر ابتذالا. والمسألة هنا هي ليست مسألة مرافقة (اي مجاورة بين ما هو حقيقي وما هو وهمي) ولكن في الكشف من خلال تجاور عناصر خيالية وواقعية مجمعة بفظاظة عن مؤدى لقاء بين الرؤيا والواقع والاحساس بالغرابة عند الرسام ، غرابة دائمة وعنيدة لعالم هو مع ذلك اجتماعي بدرجة عالية حيث كونه اندهاش فاضح .
( فكابرييل غارسيا ماركيز ) حقق تآلفا منسجما لعالم يطفو فوق الواقع انما جذوره متأصلة فيه ويغتني بنسقه ، يقول ماركيز : "الخيال هو في تهيئة الواقع ليصبح فنا " وايضا : "الغرائبي يأخذني ولا يبقى من الواقع الا ارض القصة " .
فالموضوع يكون له معنى حين يكون تجسيدا لواقع يتجاوزه لكن لانستطيع ان نعقله خارجا عنه ولا يسمح بتناهيه بالتعبير عنه بصورة مطابقة عن طريق أي منظومة من الاشارات .
حيث ان احساسا بالواقع حادا على نحو يكفي لان يتفوق على الاحساس الاعتيادي بالواقع يخلق واقعا قائما بذاته وما يهم هنا هو ان ازدياد حسة الاحساس بالواقع يخلق شبيها : "فذلك الواقع القائم بذاته هو واقع ".
ان الاوضاع المحيطة تفرض على الفنان " اما ان يسير طائعا في ركاب التراث والتقاليد واما ان يثور عليها"،
مكونا سياقات جديدة ، وبصورة اوضح فأن تحولات تحدث في مفاهيم فكرية محيطة هي التي تؤدي بالفنان الى الثورة على التقاليد الفنية التي كانت سائدة في ظل المفاهيم القديمة مؤدية من ثم الى "انقلاب هائل في نوع انتاجه الفني ".
قد يخضع الفنان في بعض الاحيان لضغوط ذاتية عالية تجعله ينفصل بعمله عن العالم الموضوعي المحيط به وعن السياق الفني بمفرداته و اساليبه ، ولا يكتسب عمومية المعرفة القائمة فتجعله هذه الظغوط غريبا عن المحيط بما توفره من قوانين وانظمة متعلقة بالسياقات الفنية والمعرفية وتفرض عليها اشكالها ومفرداتها وقوانينها هي ،و بذلك فهو يعارض اقرانه الا انه يستمد بعض المفردات من السياق الفني والمعرفي الذي وجد فيه ، وهذا السلوك اشبه في وقته بسلوك منحرف ناتج عن صراع "بين رغبات وطموحات ودوافع الفرد من جهة ووسائل الضبط الاجتماعي والسلوكي من جهة اخرى ".