الخديعة ليست جاهزة لكل من يرغب فيها كما يظن البعض. صحيح ان هناك طبخة بمواد جاهزة، لكن مزاج الطباخ يحتل مكانة مهمة في مسألة انجاح تلك الطبخة. قدح ديمقراطية زائدا ثلاثة فصوص من حقوق الانسان زائدا اربع غرامات من مسحوق حرية التعبير ونصف علبة صغيرة من عصير الدفاع عن المثليين. بعدها نضع المزيج على النار. في إمكان البخار أن يغطي على جريمة التهرب من دفع الضرائب. وإذا ما عرفنا ان مبالغ تلك الضرائب في حالة الفنان الصيني تصل الى الملايين يمكننا ان ندرك حجم دهاء الفنان الذي شيد المبنى الرئيس في اولمبياد بكين عام 2008. (اي وي وي) يغطي جريمته ذات الطابع الاقتصادي بالعويل السياسي الذي يلذ للغرب أن يسمعه. لقد اكتسب اللاجىء الصيني السابق خبرة ومهارات عظيمة في استدرار تعاطف وشفقة الآخرين، بما ينسجم مع ما يرغبون في رؤيته وسماعه.
كانت شيرين نشأت قد فعلت الشيء نفسه حين اتخذت من الإسلام مادة لاستعراضها وهي تتسلق السلم. الحكاية لدى نشأت لا تتخذ ابعادا اقتصادية وإن صارت صورها الفوتوغرافية تدر عليها أموالا خيالية. هناك سلم اجتماعي ـ ثقافي تسلقته نشأت لتصل إلى غايتها: المرأة المسلمة. الحصان الرابح اعلاميا في كل سباقات عصرنا. لا تلتفتوا الى ما تعيشه المرأة واقعيا في الغرب كما في الشرق على حد سواء، المهم ما نقوله نظريا ليكون حجة لادانة دين بعينه ومجتمعات بعينها. قالت شيرين لهم ان الاسلام يضطهد المرأة وان المسلمين اوباش متخلفون. كل هذا حضر مزينا بالنصوص المقدسة التي لا يحتاج أحد إلى قراءتها، فهي مكتوبة بحروف عربية في اشارة الى القرآن. بضاعة جاهزة هي الأخرى غير أنها تخون الحقيقة. بعكس ما كانت عليه الحال مع مارسيل دوشان، مخترع اسلوب معالجة الحقيقة بمواد واقعية جاهزة.
علينا ان نتأمل هذا المركب السكران (حسب ارتور رامبو) جيدا. والا غرقنا جميعا.
يحمل الصيني ساي جوو تشانغ الى الدوحة 62 صخرة من الغرانيت، يقول انه جلبها من مدينته شوان جوو، بعد ان نقش عليها آيات قرآنية. تلك الصخور كما يقول تشانغ هي شواهد قبور لعرب غابرين مروا بمدينته (علينا أن نصدقه) ويقدم عرضا للمفرقعات النارية يقول ان العرب كانوا مولعين بها يوم أقاموا في الصين قبل قرون. طبعا من البديهي القول ان في امكان اي صبي أن يقدم لنا ذلك العرض المكرر أما الصخور فاعتقد ان ادارة المتحف ستجد لها حلا من خلال القائها في البحر القريب.
ما الذي يتبقى من المحاولة؟
الكذبة الجاهزة طبعا.
ولكن الكذبة لا يمكن أن تقوم من غير أن يكون هناك فضاء مستعد لضمها إلى مقتنياته العزيزة. الكذبة تحلق بجناحي مَن يصدقها. وكما أرى فان الانتقال بالفن الى مجال الاعمال الحرة انما يسك عملة جديدة مشتركة، طرفاها الجهات القابضة والجهات الممولة، من غير أن يكون للمتلقي أي حضور يُذكر.
صار المتلقي غريبا في عالم افتراضي.
في أسواق الفن المعاصر هناك حديث مجلجل عن الأفكار. ولكن الفكرة الأساس كما أرى تكمن في محاولة خلق مفهوم جديد للفن، تكون حرية النقد فيه مستبعَدة. لا أحد في إمكانه أن يقول رأيه المختلف بطريقة موضوعية. إن واجبا أخلاقيا يجعلني أندفع بحرص تغلب عليه البراءة في اتجاه المعنى السرمدي الخلاق للفن. هناك حيث تمتزج الحرية المطلقة بمحاولة جعل الحياة ممكنة على مستوى العيش النسبي المباشر. حين تكون حاجتنا إلى الفن لا حدود لها فان أية محاولة للزج بالفن في عالم الاعمال التجارية انما تعبر عن استهانة كبيرة بإنسانيتنا التي صارت تقف على الحافة. لن نشعر بالراحة. هناك شخص ما يضحك علينا ويجردنا من حريتنا في أن نقول: 'لا'. والأسوأ أن ذلك يحدث عن طريق الفن.
أعرف ان لدى المستفيدين من هذا السلوك النفعي اتهامات جاهزة لكل من يشير إلى البنية اللا فنية (العملية في نفعيتها) للعالم الذي يتحركون فيه. عالم يقوم على اساس الاستثمار عن طريق الانحراف بالفن إلى منطقة يكون فيها الانجاز الفني مجرد واجهة، غير ملزمة لأحد. هناك حيث يكون النظر مجردا من قدرته على التذوق والقياس والتماهي. في تلك الحالة نحن نرى لنتلقى أخبارا. تبدو صفة (الفنان) في أشد حالاتها تلفيقا. يمكنني القول ان الكثير مما يقدم على اساس كونه فنا مفاهيميا هو عبارة عن مجموعة من التقارير الاخبارية التي في إمكان أي انسان مجرد من الموهبة الفنية أن يقدمها، من غير أن يطلب ثمنا لقاء ذلك.
غير أن الفرق بين تلك التقارير والتقارير العادية يكمن في ان تقارير (الفنانين) صارت تكلف مبالغ باهظة، وصارت بمثابة أحجارا مقدسة، علينا أن نحملها على ظهورنا من غير أن يحق لنا التساؤل عن قيمة ما نحمل. والا سنُتهم بالجهل ومعاداة التجديد وعدم استيعاب دروس عصر ما بعد الحداثة.
نحن إذاً أمام كذبة صارمة وعنيفة في الدفاع عن وجودها، خاصة وان هناك من يدعمها بالأموال الفائضة. وهي أموال صارت تُنفق على الثقافة من أجل تجريدها من بعدها الإنساني. ثقافة مؤقتة وغريبة وعابرة وقابلة للذوبان السريع مثل رجال الاعمال تماما. لذلك لا أشعر بالانزعاج حين أبدو عدوا ولا ابالي بما سيقوله مسوقو البضائع الزائفة. علينا ان نمتلك شيئا من الشجاعة لنقوم بواجبنا الأخلاقي على الأقل. وقد يكون نافعا لو ختمت بنموذج استقبلته أبوظبي منذ وقت قريب (2011) باعتباره فاتحا هو الامريكي جيف كونز وهو اليوم صاحب ملايين. هذا الفنان الذي بولغ في تقديره لا يستحق من وجهة نظري أي تقدير. واحدة من أهم معجزاته تكمن في أنه صنع بالونات على هيأة دمى ساذجة (سمكة أو أرنب مثلا). اما معجزته الأولى فانها تعود الى سنوات شبابه يوم أصدر كتابا اباحيا مصورا هو عبارة عن بورنو شخصي. لا شيء آخر. اما كيف حصل على الملايين؟ فذلك سؤال يستدعي التفكير في أحوال الفن في عصرنا وحالة كونز تضعنا في المختبر تماما. كونز لا يخفي أسراره المهنية. لديه ورشة كبيرة يعمل فيها عشرات التقنيين. وليس غريبا أن لا يقوم كونز بانجاز المخططات الأولى لمشاريعه (الفنية). هناك من ينوب عنه ومن يقوم بها بمهارة احترافية. كونز اليوم هو الواجهة ليس إلا. الرجل الذي يقبض الملايين ويحضر حفلات المشاهير باعتباره نجما، تماما مثل تريسي أمين. كونز هو النموذج المثالي لرجل الأعمال.
يقال ان كونز عرف كيف يسوق نفسه (فنه). العبارة تقال أيضا عن (فنانين) من أشباهه. ولكنها عبارة مضللة لا علاقة لها بالحقيقة. هناك من يسوق كونز وسواه ممن لا علاقة لهم بالفن، ليحتلوا الاماكن التي يجب أن يحتلها الفنانون الحقيقيون. لقد لفت انتباهي ان المزادات الفنية لا ترفع سوى أسعار أعمال فنانين مجهولين (نكرات) حين يتعلق الأمر بالفن العربي. اما اعمال الفنانين العرب المعروفين، فهي لا تباع إلا بأسعارها المتعارف عليها في السوق، هذا إذا حظيت تلك الاعمال باهتمام القيمين على شؤون تلك المزادات. أليس في هذا الامر ما يريب؟
الكذبة حافية تمشي بأقدامنا.
شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد