(من يحب بغداد الخالدة ، يعرف ان لها وجوها حضارية عدة ، فهناك الفنون والادب والابداع في النمط المعيشي، لتفاجئك بعبث مقلق او حلو، والحال ان اهلها عابثون بامتياز، لكن من دون مجون او فحش، لقد كانت هذه المدينة نواسية بامتياز قبل ان تغتصب وتخصى وتصاب بالجهل والتخلف والخوف - معاذ الآلوسي - من كتاب نوتسوس حكاية شارع في بغداد). الخطاب الجمالي الذي انشغل بتكريس ملامحه المعماري والرسام معاذ الآلوسي ، يرتكز الى موتيفية القوس بصفته بنية وظيفية وجماليه في عمارة وادي الرافدين على مر العصور . وهي بحسب خطاب الآلوسي بنية جدلية ممكنة الدرس من زوايا مختلفة وفي اوقات مختلفة ، في التصميم وفي تكريس هوية المكان ووظائفه واستجابته لروحية ساكنيه . وهو الى جانب مشروعاته المعمارية التي تعبر عن هذه الفكرة تطل واجهات ابنية شارع حيفا لتشير الى نماذج تطبيقية في تجربته المعمارية .
ومعاذ الآلوسي شخصية اشكالية ليس بفعل تجربته المعمارية بل بفعل تنوع ادواته : العمارة - الرسم - الكتابة . كان معاذ الآلوسي - 1938 ، درس العمارة في جامعة الشرق الأوسط بأنقرة .. وتجول في مدن شتى ليغترف ويقارن ويصور ويروي . وعاد في الستينات الى بغداد ليشكل عنصرا في المكتب الأستشاري العراقي ، التجربة التي تقترن دائما بوجود رفعت الجادرجي وعدد من المعماريين الحداثيين الذين شكلو ا جذور اسئلة العمارة العراقية في الستينات الى عقود تالية . اشكالية معاذ الرسام في لوحاته التي تستمد حيويتها من طاقة تفكير لاتهدأ تستعيد من سومر واشور الى قلقه الحاضر وهو يعيش اسئلة عصره . يده الثقيلة التي ترسم انما تشكل كتلا ووجوها واماكن .. وذكريات : الرسم بصفته منجى من الحزن !! واشكالية مواجهات معاذ في كتاباته ايضا حيث درج ان يوثق بحوثا ووجهات نظر ومقالات تمثل موقفه الكاشف لكل خلل يغاير منطق التكريس والتأسيس في طبيعة المدينة ، و لكنه هنا يعرض رؤيا المكان في كتابه الجديد : نوتسوس حكاية شارع في بغداد حيث عرضه في حفل توقيع في قاعة الأورفلي بعمان مع مجموعة لوحاته التي تعزز رؤيته وذكرياته .
بقيت طفولة معاذ الآلوسي - 1938 مرتسمة على ملامحه طوال سبعة عقود من الرؤيا ومن نزوة الجمال في ابتكاره تصميما ورسما وكتابةً ، حيث يرى ان جذوة الأبداع تشتغل حين يبتكر الطفل طريقته لصياغة عالمه باليدين وبالمواد التي توفرها البيئة المنزلية له . يذكر معاذ كثيرا تأثيرات والده واهتماماته بالرسم ويحيلها الى مؤثرات . ومكونات بصيرة باكرة لطبيعة المعمار والرسام فيما بعد .. في راس معاذ دائما اسماء لمدن واماكن ترتبط بتجربته : الكرخ الأعظمية المقبرة الملكيه كنائس بغداد وجسورها ورائحة الماء : دجلة . وكلما تذكر تجاربه في العمل في مشروعات لتطوير الكرخ مثلا كمركز حضري كان دائما يشير الى بيئة غير سويه وغير نظيفة سواء اكان من المستعمل ام من الأنظمة الأدارية وقد ارتفعت مطاليبه للحفاظ على مستوى البناء في بغداد كي لايرتفع اكثر من 6 طوابق لمدينة بغداد ، فيما كان الآخرون يكرسون فكرة الأبراج السكنية . ودائما هو يرثي المدن العراقية واحياء بغداد التي اتخذت شكل المدن الطارئه كما في الخليج وفقدت بغداد هويتها .
من هنا يجيء كتابه الذي يشكل شهادة في عمارة المكان وشهادة لصالح العمارة العراقيه وفكرها وتأثيرات اجيالها يقول : التجربة المعمارية العراقية الحديثة متميزة في المنطقة، وتاثير ممارسة المعمارين العراقيين على التجربة العربية واضح وصريح، كما ان ثمة ظلال عراقية يمكن ان توضح المؤثرات الخاصة للتجربة المعمارية في مشروعات عراقية وعربية وفي اجيال من معماريين عرب وتجارب عربية خليجية خاصة .. وفي الشرق ، برغم المدى الضيق الذي كان يفتقد المناورة . انه حزين ان نهر دجلة غدا مرمى نفايات وان فكرة الهدم سيطرت على سياسة الأزاحة لكل تراثي وموروث مما تسبب في هدر النسيج المديني لبغداد ، وتجاوز ذلك الى محو انما ط حياة ومعيشة، (حيث تسببت هذه العملية في هدر نسيج مديني متميز وابنية ذات خصوصية فريدة، جوامع وحمامات واسواق وواجهات وفعاليات نهرية فريدة في صوبي بغداد، رصافتها وكرخها، وفقد الى الابد نمط معيشي اصيل ومتميز من دون توثيق جاد).
يشكل كتاب نوتسوس لمعاذ الآلوسي ( 350 صفحة القطع الصغير - دار رمال - عمان ) كنمط من تداعيات مزيج شخصه : الطفولة الصبا الشباب والكهولة : وما تضمنت من حياة واسماء وتجارب ومعايشات وذكريات عبر شعرية السرد . حيث تشير الى مدى تكوّن سمات المكان - بغداد - وتأثيراته في بنية الشخصية ونزوعها . اسلوبه السردي يشي برواية تنطوي على الكثير من التوجع والحنين ولكنه يحكي عن الدرب .. ذلك الخيار الذي انتهجه في رؤية الوقائع ومواجهتها ومعايشتها بغية منح المعمار قوة التجربة المهنية برغم المرارة والأسى وقوة الصراع في بيئتنا البغدادية على مستوى النظام الأداري والوعي (الجهل) بالعمارة ومكوناتها واهميتها في تكريس جوهر المدينة .. يروي معاذ تجاربه المهنية في دورتها الزمنية خلال ازيد من اربعة عقود ويشير الى مدن زارها في كشفه الذاتي وتصويره الفوتوغرافي - كتجربة متصله بمهنته وفنه المعماري والبصري كرسام - وحين يمر ببغداد وتجاربه المعمارية وشارع حيفا وجامع الدولة وغيرها يمشي : صوب الكرخ وصوب الرصافة .. ويتأمل عمارتهما وسكانيهما وطبائعهم التي ارتبطت بالمكان كنوع من مكون انثروبولوجي لهوية .. وعمارة ومدينة .. حتى يكاد يطلق صرخة اغترابه الأبدي - كما اسماها .
انا لااستطيع ان احكي عن معاذ الآلوسي الأنسان العراقي البغدادي دون ان تؤثر في صداقتي الشخصية وعاطفتي ازاءه. انه معمار بنى وانساق ومعمار صلات واحالات عاطفية . كل لبنة طين وكل (كورة) وكل طابوقة هي بالنسبة اليه حواس وتجربة رافدينية .. وقد عرفت في معاذ صديقا ومعمارا ورساما وكاتبا .. روح ابوة و مبتكر يترك لمسة الحنو على كل عمل انجزه .. وهذا الكتاب بصفته هوامش وسيرة وشهادة معمار ورسام وسارد .. هو نوع من بكاء وجداني على الغياب وعلى الفقد .. عبر عاطفة معمار رؤيوي اشتق موتفات الماضي لتؤطر مشروعات الحاضر البغدادي من اجل حلم مدينة مستقبلية ... اسمها بغداد . |