لاشك اننا امام نقلة ما، نقلة كبيرة يصعب تصورها،
ربما لاتخص الرسم وحده لكنه سيتأثر بها بلا شك.. لقد حدث تحول في الوعي البشري نتيجة للتغير الهائل في الذاكرة الانسانية عبر توحيد الخلايا البايولوجية مع الخلايا الالكترونية لصنع ذاكرة (الانسان) خارج الجسد وتأسيس فاعلية لنوع من الذكاء الذي انتج سلالة جديدة في المعرفة وسلالة جديدة بالضرورة من الفن. ومن هذا المنطلق اعرض بعض الملاحظات في ما يتصل بتحولاته.. لدينا في واقع الامر ثلاثة اقانيم يمكن من خلالها – منهجياً – فهم آليات التحول:
وهي الصورة والجماعة والحداثة. ان دراسة الصورة في الرسم لا تخلو من التعرض الى الصورة في حقول اخرى، لكن ما الصورة في الرسم؟ هل هي الصورة الفنية المرسومة (اللوحة) ام الصورة المتحركة؟ هل هي صورة تنبع من تصور مسبق ام صورة الواقع كما هو؟ هنا نتساءل عن امكانية طرح هذه الثنائية (صورة المرأة – صورة الشاشة – الصورة الفردية – وصورة الجماعة). فاذا كان الوعي الذاتي للفنان يتشكل عبر الصور..
فالوعي الجمعي ايضاً تصنعه الصورة انها العنصر الاساسي في سياسات بلورة الوعي الجمعي، وهي بلا جدال اداة خطيرة لتحريك الجماعات عبر الصورة الاثرية والمتحركة، الضوئية منها والاعلانية ، التلفزيونية والسينمائية. انها ظاهرة تفصح عن نفسها حتى في منطقة ما هو جمالي او فني على نحو خالص فكثير ما يحدث في الحركة الفنية اثبات فكرة عما ينبغي ان يكون عليه الفن اليوم، وبالتالي تتحول هذه الصورة الى نموذج يجري اتباعه وتكتسب قوة النمط . لقد حدث ذلك عندما كانت اللوحة الفنية، الشيء الوحيد الخارج من وعي الانسان بطريقة انتاجها فكانت اللوحات تعبر عن الحياة بأساليب مختلفة، منها ما هو واقعي او انطباعي او تعبيري او رمزي او تجريدي. اللوحة في هذا الصدد صورة واحدة من صور الحياة، منعكسة او منكسرة في مرآتها. ان تارخ الرسم بهذا المعنى هو تاريخ نمط اللوحة الثابتة والمتجمدة (اللقطة الواحدة) عبر انشطة ايديولجية او تداولية.. حيث تطرح المتاحف و (البينالات) نمطاً من الرسم، الخالص بأهتماماتها،
مثلما حدث لبينالي فينيسيا ان دعا الى ثيمة تعنى بتجسيد الشكل الواقعي عبر علاقة ملتبسه ليس لها صلة بالواقع، فظهرت موجة من الاعمال التي تسعى الى هذا الاتجاه، او يمكن لصالون الشباب ان يحتفي بالعمل الفني المركب من نفايات تتحول الى انموذج او رؤية جمالية يندفع بأتجاهها جيل كامل. انها بأختصار تأثيرات آليات السلطة على نحو ما وصفه فوكو. حدث مثل ذلك ويحدث في تاريخ الفن، لان مجال الصورة محدود، ولا يتسع الى اكثر من حيزات (لوحات) يرسمها فنانون وهم وحدهم من يستطيع التحكم في نوع اللقطة واسلوبها وتفردها وتقنياتها. تتسابق المتاحف وقاعات العرض بأقتنائها على انها انتاج اصيل ومتفرد في هذا الجو ظهرت فجأة آلة التصوير، وبدأ عصر جديد في فهم الصورة.
وقد ثار جدل بين المصورين الفوتوغرافيين والفنانين التشكيليين حول القيمة الفنية لاعمالهم، لكن مثل هذا النقاش يبدو لنا اليوم عديم الجدوى ومختلطاً نوعاً ما.. لكن ذلك لا يقلل من قيمته، فهذا الجدل ينبىء بتحول تاريخي لم يكن اي من الفريقين يعي وقعه العالمي، ولفترة طويلة بقيت الصورة الفوتوغرافية محاطة بأساور الانغلاق حتى تمكنت من دخول حقول تطبيقية اخرى، كالفلم السينمائي والاستنساخ الطباعي، والسؤال: ما اذا كان اختراع التصوير نفسه قد حول طبيعة الفن؟ اذ سمحت الكاميرا والتقنيات السينمائية بالتعاطف والتقمص مع ما يحدث امامنا على الشاشة وتحويل ما هو صلب الى اثيري، من اجل اشباع رغباتنا في الاكتشاف والتمتع. لقد بدأ عصر جديد من معاداة اللوحة، او التعاطف معها، او موتها واعادة انتاجها.. كانت اللوحة لا تشاهد سوى من قبل فرد واحد او مجموعة محدودة، ولم تكن المشاهدة جماعية وعريضة كما يحدث الآن وطبعاً لم يكن سبب هذه الازمة نشأة التصوير الفوتوغرافي او الاستنساخ فحسب، بل لان الاعمال الفنية بدأت تكتسب قدرة ذاتية شبه مستقلة تحاول تأكيد نمطها الشعائري والدلالي فنشأت – المسافة الفاصلة بين الرسم والجماعة.. لان طبيعة الرسم لا تستدعي الاستقبال الجماعي المتزامن الذي يتاح دائماً للعمارة والنحت والسينما.
وعلى الرغم من ان هذه الملاحظات يجب ان لاتؤدي بنا الى استنتاجات قاطعة فيما يخص دور الرسم الاجتماعي الا انه من الواضح ان مثل هذا الوضع يشكل تهديداً خطيراً حينما يوضع الرسم تحت ظروف خاصة رغماً عن طبيعته وجهاً لوجه امام الجماهير العريضة، حينها يواجه الرسم واللوحة التشكيلية قدرها الجديد.. حتى ان قاعات العرض تحاول ايجاد وسائل مختلفة لجذب المشاهد، وسائل خارج البنية التاريخية للرسم ونظامه، في اقامة حفلات الاستقبال وتقديم الموائد والمشروبات والحلويات للزائر القادم !! هنا ظهر وعي حقيقي عند الفنانين، بأن عصر اللوحة يوشك على النهاية، او انها في احسن الاحوال سوف تكون جزءاً من الاثار الانسانية لكي تحتل مكانها في المتاحف والبيوت او من قبل اولئك الذين يستهويهم الحنين الى الماضي. وهكذا حاول الفنانون الاستجابة الى المعطيات الجديدة والتحرك بأتجاهات مختلفة، لما سمي فيما بعد عصر الحداثة وما بعد الحداثة. لقد بدأت ظاهرة جديدة في تاريخ الرسم، تقع على مفهوم مختلف اللوحات في الشكل والاستعارة، ومثالاً فأن (اندي وارهول) رسم لوحات تكاد تقتصر على التوزيع بطريقة القص واللصق لصور فوتوغرافية موجودة في الواقع بالفعل مثل صور مارلين مونرو.. او تقديم استعارات متعددة فعل (وارهول) في تقديم اشكال سينمائية وعلب تغلييف وغيرها. في حين يمكن مشاهدة الرسوم الموجهة للأطفال تقدم على انها اعمال فنية مثل اعمال (ليختنشتاين) او سريالية (ماكس ارنست) التي لاتعدو كونها لقطات من افلام الخيال العلمي.. لماذا التوقف عند هذه الاسماء؟ ان الامر يعود اساساً الى الفن المفاهيميConceptualism المبني على فكرة انها الفن بوصفه مستودعاً للجمال، وهو التوجه الذي بدأ مع (دوشامب) في فكرة الشيء الجاهز التي كانت احد الابتكارات الرئيسية للدادا ئم تطورت صورة الفن الى (التجميع والقمامة) .
في عام 1961 نظم متحف الفن الحديث في نيويورك معرضاً لهذا الفن وقد ورد في مقدمة الدليل التعليق الآتي الذي قدمه وليم ساتيز : ان موجة التجميع الحالية، تؤشر تحولاً من فن تجريدي – ذاتي الى اقتران منقح مع البينة واشار الفنانون ايضاً الى معالجة خصائص مثل: الشعبية، الزوال، عدم الضرورة، خفة الظل، الجاذبية الجنسية، الانبهار، فضلاً عن كون الفن قليل الكلفة وبأنتاج وفير وفني ويؤلف تجارة كبيرة كما يقول هاملتون. هذه المفاهيم وغيرها ليست الا وسيلة للحاق بعصر الآلة. والانتشار الهائل للصورة، لاكن المشكلة لم تكن في الاستعارة بل في النمط، ليست في المرسوم بل في ذات الرسم. فما دامت اللوحة لقطو واحدة، جامدة فأنها لا تستطيع تحريك القابليات الجديدة للمتلقي، لأن محاولة الرسم الخروج من نمطه توقفت لصالح الاقتران مع وسائط جديدة. كما فعل الفوتغراف وعندها بدأ عصر جديد يمكن تسميته بعصر الكرافيك. ان كلمة كرافيكي المأخوذة عن الايطالية Graffiti تعني اصلاً الكتابات والرسوم المحفورة والمنقوشة على الحجر او المعدن او الخشب، وهو اسلوب خاص في الرسم القابل للأستنساخ. اما اليوم تستخدم اساليب اخرى لا صلة لها بما سبق.. فهي رسوم وصور:
اعلانات وعلامات سطحها التصويري واجهات المحال والشوارع، تحاول شاخصة ان تدخل الى عين المتلقي بطرق مختلفة قد تكون قسرية احياناً. ولم يوضع شرط لأنتاجها وكثيراً ما تكون غير مرغوب بوجودها، ويكون واضعوها اشخاصاً مجهولين ليس لهم سوى تفعيل المقام التواصلي. الكرافيك المعاصر ليس رسماً فقط ولا صورة انه فعل بصري تختلط فيه الكتابة مع الصورة المتحركة ويقترب كثيراً من فن السينما لاكنه يتخطاها في وسائل العرض الاكثر انتشارا في الساحات والحدائق والطرق والبيوت والكتب والجرائد. وغيرها. لقد ازاح نموذج في الكرافيك مفهوم اللوحة والرسم معاً. وتعالق مع فنون اخرى بوساطة تقنية متعددة يمكن تسميتها بالخلق الافتراضي للصور بوساطة الكومبيوتر. والانتقال من الذات المبدعة الى الذات الصانعة ان صحت العبارة . ان عصر الحداثة وما بعدها الذي يشكل الكرافيك على وفق ما ذكرنا .
طورها المتنامي في تجاوز الحدود وردم الهوة بين الفنون جميعاً لصالح الانتاج الذي تستطيع تسميته ما تشاء.. اقول مع (كيج) علينا ان نستيقظ مع الحياة التي نعيشها بالذات.. وان يكون الفن جزءاً فاعلاً فيها لا دخيلاً، وقد يعني هذا فيما يعني تهديم الحواجز القائمة بين الفن والفعاليات الانسانية الاخرى مثل التجارة والتكنولوجيا الصناعية، الازياء والتصميم والسياسة، ان مثل هذه الرؤية تشجع الكتاب والمؤلفين ومخرجي الافلام على تحطيم حدود اختصاصهم وعلى العمل معاً لأنتاج عروض مختلطة الوسائل من شأنها ان تخلق فنانوناً اغنى واكثر تعدد في وجوهها. |