في الخمسينات، وتحديدا في عام 1957، منح عاهل العراق السابق، المرحوم فيصل الثاني، قطعة ارض في منطقة المنصور لتكون مقرا لجمعية الفنانين العراقيين، إحدى جمعيات المجتمع المدني النادرة أيام الحكم الملكي. وظلت الأرض شاغرة مذاك، لحين الاتفاق مع مؤسسة كولبنكيان في سنة 1964 لتأمين مبالغ كلف إنشائها لتكون مقراً إدراياً للجمعية مع تضمينها فضاءات عرض خاصة. تم تكليف قحطان المدفعي بإعداد تصاميم الجمعية وبالفعل فقد أنهى المعمار مهمته وافتتح المبنى مساء يوم 12 تشرين الثاني 1967.
يثير القرار التصميمي للمبنى حالة من الدهشة جراء التناقض الكبيرالحاصل بين بساطة المخطط وتعقيدات التسقيف، حالة يمكن أن يذكرنا "تناصها" الجليّ مع مناخات مبنى "أوبرا سدني" في أستراليا (1957-73) "المعمار يورناوتزن". فـ "تجاور المتناقضات" سيدّ "اللعبة" التكوينية في كلا المبنيين. ثمة شكل هندسي منتظم في هيئة مستطيل، هو "فورم" المخطط الأفقي لمبنى الجمعية بالمنصور، المتضمن أحياز لوظائف متواضعة مقتصرة على فضاء واسع مخصص للعرض الفني، وآخر مفصول عنه بحيز بهو المبنى يشتمل على فراغات لغرف إدارية بجانب مطبخ يخدم أساسا رواد فضاء المبنى المفتوح المتمثل بحدائق الجمعية. وإذ لاحظ المعمار نشوء انطباع تبسيطي غاية في الصرامة ناتج عن سطوح الحيطان الصلدة الخالية من الفتحات عدا فتحتي البوابة الأمامية والخلفية، فإنه لجأ إلى توظيف قطع "البلوك" الخرسانية المبنية بها تلك الحيطان للخروج من مأزق التبسيط الصارم، عاملا فيها أفاريزلأشكال هندسية منتظمة كالمثلث والمربع والدائرة والمعين، مستحضرا هذه المرة، أسلوب معالجة جدران "البنك المركزي العراقي" ( 1959 ) بالرشيد، المنقوشة فيها أفاريزأشكال العملات العراقية في نسختها الجمهورية.
لكن ما يثير في عمارة المبنى ليس هذا، فليس ثمة إثارة تذكر في امتداد سطوح جدران مشغولة بـ "بلوكات" خرسانية فاتحة اللون منقوش عليها أشكال هندسية. ما يثير هو الخطوة التالية في حالة إذا رفعنا بصرنا شاقولياً، عندها ستصطدمناأشكال لافتة لأقبية خرسانية معتمة مختلفة المقاسات ومتباينة في المقاطع، ترتكز على ذلك العنصر الإنشائي الفاتح. وحينذاك ندرك بواعث التعاطي مع الجدار بالصيغة المتقشفة إياها. إذ أن سكونيةالأخير وحياده التام يهيئان المتلقي لفعل الحدث الدراماتيكي القادم المفاجئ والمترع بالتعبيرية الذي يولده إيقاعالأقبية الخرسانية المقطوعة بشكل مائل زيادة في ديناميكيتها. ويبدوظاهرياً أن الهدف الأساس الذي وضعه المعمار لنفسه قد تحقق، هدف التفرد الشكلي الممزوج بالحس النحتي. لكن السؤال ماانفك مطروحا، هل ياترى ان المعمار اكتفى بما تحقق، " نافضاً " يديه من تبعات اصطفاء مثل هذا النوع من التسقيفات؟ واذا كان هذا صحيحاً، فان المشكلة والإشكالية اللتين أوجدهما المعمار مابرحت، إذاً، قائمة. ذلك لأن الحيز الداخلي للمبنى ينوء تحت وطأة فائض الحرارة العالية المنتقلة بسهولة نحو الداخل عبر الأقبية المكشوفة ذات السماكة القليلة، غير المسلحة بأي نوع من أنواعالعزل الحراري المفترض توفره هنا. وفي النتيجة فنحن إزاء صنيع قد تبدو هيئته التسقيفية مشحونة بالحس الفني، لكن ما ترتب على توظيف تلك الهيئة كان خليقاً بالمعمار ان يجد حلا ملائما له. حلاً يحافظ على جراءة الفورم المبتدع، ويبقي جرعة التعبيرية المكثفة فيه، بالوقت الذي يُعنى بتأثيراته الجانبية. وإذ نذكّر بأن مفهوم الوظيفة الآن بالعمارة، وفقاً لآليات النقد الحداثي،تحمل تفسيرات عديدة تصل حد إسقاطها من الفعالية المعمارية، كما أن تلك الآليات تسوغ لنا ما لم يكن تسويغه. بل تذهب بعيدا في تقبل ما يسميه "جاك دريدا" بأطروحة "تدنيس العمارة". بمعنى "فك ارتباط" مفهوم العمارة عما ارتبط بها من قيم مثل الوظيفية،والمتانة،و"الاستطيقا"،والمنطق، والتمثيل، والتاريخ، كما تدعو إلى ذلك ستراتيجيات "التفكيك" على سبيل المثال.لكننا مع هذا، نريد إخضاع تصميممبنى جمعية الفنانين العراقيين بالمنصور، للنقد. فهو مثير للنقاش،ويحضر في تكويناته "الشيء ونقيضه": البساطة مع التعقيد؛ الوضوح مع الإبهام،وأيضا الحضور مع... الغياب.ومع هذا، فان ذلك لا يمنعنا من ان نتساءل فيما اذا كانت العمارة قادرة بالاحتفاظ على بُنيتها المفاهمية رغم ذلك المسعى ؟ ومع هذا (وربما بسبب هذا)، فان عمارة مبنى الجمعية مازالت تعتبر من الأحداث المهمة في المشهد المعماري المحلي والإقليمي على السواء ، لنظارة المقاربة التصميمية وتمظهراتها بهيئة متفردة مفعمة بحضور الحس التعبيري والنحتى معاً، فضلا عن اكتنازها لدلالات تشي إلى ثقافة المكان. كما نسجل، بأسف،ان خصوصية موقعها في ارض منزوية،بالقرب من محطة تعبئة وقود، عمل سلبا لجهة تيسير وسهولة مشاهدة عمارتها، وقلل بالتالي، من إمكانية قوة تأثيراتها التصميمة على المنتج المعماري العراقي.
ولد د. قحطان المدفعي عام 1927 ببغداد، وأنهى تعليمه المعماري بسنة 1952في كارديف/ المملكة المتحدة،.عاد بعد تخرجه مباشرة إلى العراق، ليمارس مهنته المعمارية، مؤسسا لاحقا، مكتب "دار العمارة"، مثريا البيئة المبنية المحلية بتصاميم عديدة، اعتبر بعضها محطات مهمة في مسار عمارة الحداثة بالعراق. صمم دور موظفي مصفى الدورة (1952)، ودور شركة المنصور (1955)، وجامع ست نفيسة بالكرخ (1955)، وجناح العراق في معرض دمشق الدولي (1957، وفي 1958)، ومصرف الرهون ببغداد (1957) <بالاشتراك مع عبد الله إحسان كامل>، ومبنى السامرائي بالقرب من سوق الصدرية (1958)، كما صمم حديقة الجوادين بالكاظمية (1959)، وحدائق الأوبرا 1962-65)، ومبنى متحف التاريخ الطبيعي (1971-76)، وجامع بنية بالكرخ (1965-75)، ووزارة المالية (1978)، والكثير من المشاريع الأخرى. نعرف، أيضاً، بأن المدفعي " متورط " بالحداثة ، كمبدع له حضوره المميز في نتاج أجناسإبداعيةأخرى غير المعمارية، فهو رسام جيد، وشاعر غير عادي، ومثقف رفيع الثقافة، وأكاديمي كفء، ومحدث لبق، ودائم الدأب في الحصول على المعرفة ( وليس من دون مغزى، انهماكه في الدراسة مجددا، ومن ثم نيله، عام 1984 من مدرسته المعمارية الأولى، شهادة الدكتوراه بالعمارة، بعد 32 عاما من تأهيله المهني الأول!).