ربما ارتقت عمارة "ايا" في البتاوين ببغداد (1989- 90)، <المعمار: معاذ الآلوسي>، بشكلها المميز وخصوصية مرجعياتها التصميمية، الى مرتبة الحدث الاستثنائي والرائد في الخطاب المعماري المحلي (هل أقول .. والإقليمي ايضاً؟). فالمقاربة المعتمدة من قبل المعمار في تنطيق مفرداتها التكوينية، إضافة الى توقيت زمن ظهورها، وحضورها المكاني، يسبغ عليها خصوصية متفردة وقيمة مضافة في آن. نحن، اذاً، أزاء حالة معمارية، لا تشبه البتة، "حالات" عمارة المباني، التي اعتدنا رؤيتها، وأمست لفرط تكرار مفردات لغتها التصميمية، امراً عادياً، لا تثير فينا الدهشة او الاستغراب. إنها ، باختصار، احدى نماذج مقاربة عمارة ما بعد الحداثة البغدادية، المقاربة التي وجدت في شخصية المعمار معاذ الآلوسي (التائق دوما الى مزيد من المعرفة والى كثير من التجديد)، ممثلا قديرا لها؛ مانحا لنا عمارة ممتعة، مشبعة بمزاج ما بعد الحداثة التصميمي، المتسم على مبالغة في تقديم المفردات التكوينية المصحوبة بالتهكم، وتكريس الانزياحات المفاهيمية في معالجة نوعية العمارة المنتجة.
عندما بدأ الجيل الثاني من المعماريين العراقيين (الجيل الأول هم المعماريون الأوائل الذين تأهلوا اكاديمياً ومهنياً في منتصف الثلاثينات وبدء الاربعينات)، العمل على تكريس مرحلة جديدة من عمارة الحداثة العراقية، في الخمسينات، - وهي حداثة استقت مرجعيتها المفاهيمية من ما كان يدور في الورشة المعمارية العالمية -؛ فإن ذلك العمل، اعتبر بمثابة "مأثرة" معمارية اجترحها معماريو الجيل الثاني، ما مكنهّم، بالتالي، من ترسيخ أسمائهم في الخطاب المهني العراقي. ورغم تعدد الأسماء المعمارية، لاحقاً، وحتى تنوعها الاسلوبي فان حضور الآخرين في المشهد، ظلّ ينظر اليه "كتوابع" لتلك الاسماء الاولى، هي التي اعتبرت دوماً أساتذة للحداثة المعمارية المحلية و"آباءها"!
لقد افضت تبعات تلك الحالة، الى "تغييب" اسماء عديدة، طمحت لان تكون لها مكان معين في المنتج المعماري العراقي، بعيدا عن "وهج" الاسماء الاولى و"بريقها"! ومن المحتمل، إن بعض تلك الاسماء، وَعَت حقيقة بان "اللعب" خارج ساحة الحداثة، يمكن ان يحدّ من تأثير احتكار ونفوذ "سلطة" الاسماء المعروفة في المشهد المعماري. ذلك لإن استدراجها الى منافسة، لا "تعرف"، هي، اشتراطاتها وقيمها، سيضعها في مكان، هو في الواقع، خارج "مكانها"، وبالتالي سيحرمها من امتيازات "حصانة" الريادة التي تشبثت بها طويلا. لقد اغوت آفاق عمارة ما بعد الحداثة الطازجة والملتبسة، التي ظهرت فجأة في الخطاب، وبما تحمله من جديد، يصل حدّ القطيعة "الفورماتية"، أغوت الآلوسي وشجعته لارتياد دروب تصميمة جديدة، لم تكن معروفة او متداولة في الخطاب المعماري المحلي؛ هو "المنذور" لارتياد عديد تلك "الدروب"، التي تحدث عنها بلهفة وشوق في كتابه "نوستوس" الصادر مؤخرا. وكانت النتيجة ظهور "ايا" بعمارتها المميزة.
وعن تلك العمارة، كتبت ،مرة، قبل خمس سنوات (2008)، ما يلي ".. يتوق معاذ الآلوسي في اصطفائه لاسلوب معالجة كتلة مبناه الى تذكيرنا بقرار "التقسيمات الثلاثية" التي سادت يوما ما عمارة الابنية المتعددة الطوابق، والتي اشاعتها "مدرسة شيكاغو" المعمارية العقلانية في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، وباتت منذاك، احدى "لوازم" العمارة الوظيفية. فـ"لويس سوليفان"، مبتكر تلك الثلاثية، يحضر ببلاغة في عمارة (ايا) ، ليس تمثيلا للوظيفية التي التحم عنوانها مع اسمه، وانما بصفته موحيا لقيمة جمالية ومصدرا لتنوع المعالجات الواجهية. إن إجراءات تنطيق قسم الطوابق الأولى، ومنطقة طوابق الجزء الوسطي، والنهايات الخاتمة للتكوين الواجهاتي والغالقة لها، تتم من قبل المعمار بنوع من التحديدات الواضحة المنفصلة عن جوارها بشكل مبالغ، حتى يضمن المعمار الاحساس بحضور التمثيل Representation ، او بالاحرى "وهم التمثيل" وفقا لاطروحة "بيتر ايزنمان".
فليس المعيار الوظيفي هو "الحاكم" هنا؛ وانما النزوع نحو اكساب المبنى قيمة جمالية مؤثرة، متأسسة اصلا على مبتكرات المنظومة الثلاثية اياها. اي بعبارة أخرى تطمح عمارة المبنى الى تكريس "رسالة" التمثيل ، اكثر بكثير من ان تكون مهتمة "بمعناه". ومن هنا ايضا يمكن ايجاد تفسير لتلك الازاحات Displacements المتقصدة في المفهوم الوظيفي لجميع عناصر الاقسام الثلاثة المشكلة لكتلة المبنى والصائغة لواجهاته؛ والتي سعى المعمار الى تمويه وظائفها النفعية، زيادة في تكريس قيمة التمثيل لديه. فتظهر الاعمدة الرافعة باشكال مميزة يوحي شكلها غير التقليدي الى انفصال تام عن استحقاقات عملها الإنشائي . ولا ترمي فتحات النوافذ المبثوثة على سطح الجدار الآجري المشغول بعناية وحرفية عالية الى التدليل لوجود نظام صارم يهتم في توزيع الفراغات الواقعة خلفها، اذ ان نشرها بالصيغة الصدفوية المتقصدة يراد منها النأي بعيدا عن صرامة ترتيب التقسيمات الحيزية المعتادة في الابنية المتعددة الطوابق. في حين حرص المعمارعلى معالجة "افريز" الجزء العلوي من مبناه باشكال وحجوم ، تستحضر بها اشكال القفلات البنائية الشائعة في بيوت الثلاثينات البغدادية!.
تبدو الآن، عمارة "ايا" (التي أدعو المعماريين الشباب لزيارتها)، في موقعها الضاج بتعدد الاستخدامات، وكأنها قطعة "غريبة" عن سياق ما يحيطها، هي التي عول كثر (بضمنهم انا شخصياً)، لتكون عمارة موحية، او في الاقل، "كاشفة" لسبر أغوار فعالية أخرى، تثري النشاط المعماري المحلي، وتفتح امامه سبل جديدة للتعاطي مع مفهوم إبداعي، امسى بلغته التصميمية المعبرة، احد اهم طروحات الممارسة المعمارية العالمية. بيد إن صخب سنين التسعينات، وما رافقها من احداث مدمرة، جعلت الأمل المرتجى من عمارة ذلك المبنى، املا تذره الرياح العاتية، التي هبت على البلد من كل حدب وصوب، معيقة وطاردة كل ما يمكن ان يمثل حافزا للتقدم نحو الامام.
ولد معاذ الآلوسي في 24 تشرين الثاني 1938 ببغداد، وانهي تعليمه المعماري من جامعة الشرق الاوسط بانقرة/ تركيا، في سنة 1961. عمل في مؤسسة الإسكان العراقية ثم مديرية المباني، قبل ان يلتحق في مكتب الاستشاري العراقي، الذي سوف يتركه عام 1974، مؤسسا لنفسه ومع آخرين مكتب "الدراسات الفنية" في بيروت /لبنان ، وبعد حله ينشأ مكتب " الالوسي ومشاركوه" في قبرص. صمم دار سكنية له في المنصور (1966)، ومبنى " اتحاد نقابات العمال" (1974) المنفذة في مناطق مختلفة بالعراق، و"مشروع المصرف المركزي (1975) في صلالة بعمان، والبنك العربي الافريقي (1977) و" مطبعة دار القبس" (1978) بالكويت العاصمة، و"البنك العربي"(1978) في مسقط، و"سفارة الإمارات العربية المتحدة(1979) في عُمان، والسفارة القطرية (1976) في عمان، والسفارة الكويتية في البحرين، ومركز الدراسات المصرفية" (1980) الكويت العاصمة، اشرف على تطوير منطقة الكرخ (1981-82)، وتطوير شارع حيفا ببغداد، وصمم الجزء السادس منه (1980-84)، فضلا على اشتراكه في "مشروع مسجد الدولة الكبير"( 1982) بغداد/ العراق، ومركز صلالة الثقافي (1982) في عمان، وصمم دارا سكنيا له في الكريعات (1985)، و"مستشفى البسمة الاهلي" (1989) بالوزيرية ببغداد/ العراق، ومبنى" كمال حمزة" (1979) بالخرطوم / السودان، ومشروع القصر الرئاسي(1995) في برازفيل / الكونغو، و"معمل كندا دراي وسفن آب"( 1978) في دبي، و" خدمات مرسيدس بنز"(1999) في يرفان / ارمينيا.
نشر دراسات عديدة والف كتابين (يوميات بصرية لمعمار عربي)،1983، بيروت /لبنان، و"نوستوس" عمان 2012. يمارس الى جانب الفعالية المعمارية، الفن التشكيلي والفوتوغراف. مقيم، الآن، في قبرص.
|