أن الذي يرى أعمال بتول الفكيكي الأخيرة يحس وهو يدخل إلى صالة المعرض أن هناك ضياء ينبعث من تلك الأعمال أو بالأحرى من الأجساد التي تسكن فضاءات تلك الأعمال, ليتسلل إلى قلبه حيث يسمع عزفاً لمقامات الصبا والنهاوند هناك لتشير إلى النص الذي كتب عن نساء مابين نهرين أو نساء مابين حربين أو أكثر..
كانت هناك مسافات تترك مابين حربين أو ضيائعين فأكثر, تنتنظر قلماً لشاعر أو ربما لكاتب ليرمي حروفه هناك لعلها تكون دثار لتلك النساء حين عرتها الأحزان وشظايا الأيام, لكنها أي المرأة كانت سعيدة الحظ حين أتت ألوان هذه الفنانة لتشعرها بالدفء وتكون دثاراً لها من برد الوحشة برحيل الأحبة بحروب الضياع أو الهجرة الى الأصقاع.. لكن الشيء الذي حدث أن هذه الألوان ختلطت وأمتزجت بتلك الندوب والجراح, وكأن تلك الندوب عطشى لهذه الألوان , أشرأبت بأعناقها لترتوي منها.. حتى أصبحت تلك الألوان الصدى الذي يردد صراخّها في دواخل المتلقي لتحيله الى مرجعيات بصرية تعود به لسنوات الى الخلف لكن أثارها لازالت رطبة برطوبة ندى الأيام حين تشتاق لملامسة عطر النساء.. في هذا المعرض كان الوجه غائب أو تراجع الى الوراء لأن الفنانة أرادت أن لا يخطف الوجه بتقاسيمه الجمالية وإيحاإته الأنثوية بؤرة الأرتكاز عن النص المكتوب على الجسد.. هذه الأجساد لها القدرة العجيبة في الأختزال والتفاعل ومن ثم أطلاق ما نتج من ذلك التفاعل والأنصهار الى المكان المحيط بها لتتجلى لنا صور وحكايات قد لا تستوقفنا في لحظة الفعل, ولكن صياغتها وأعادتها بهذا الشكل التعبيري الجميل, بعدما تفاعلت عناصرها في وجدان الفنانة وأحساسها المرهف ,,جعل المتلقي ينشد إليها وتحتفي كل حواسه بذلك الفعل الجمالي, وأن جاء بثيمة حزينة عن المرأة وهو واقعها الفعلي في وطن الفنانة والأوطان العربية الاخرى .. لذلك كانت نساء بتول الفكيكي يأسرن كل من نظر أليهن,, أنهن مأخوذات برؤى الموت والحياة.. والحزن والحب.. والقيد والأنطلاق الى عالم لا يسكنه الموت والخراب الأبدي.. لذلك نجد أن أنامل الفنانة قد وشمتهّن بوشوم تغري المتلقي حينما ينظر للوهلة الأولى إليهن فينجذب وكأن شيء من عالم السحر والملكوت يسكنهن.. وما أن يبدأ بقرأت النص البصري وتمس حواسه كل عذاباتهن التي حدثت على مدار الزمن المحيط بهن حتى يجفل قلبه لفرط الحزن المنسكب عليهن, وكأن هذه الوشوم قد خزنت بداخلها تاريخ حزن النساء.. وهنا يكمن جمالية التكنيك الذي أحدثته الفنانة في وجدان المتلقي وهذا جزء من جمالية الفن حين يوحي أليك بشيء للنص البصري الظاهر ليكون ذلك النص مقدمة لنص آخر لايقل عنه جماليةً ولكن بالتأكيد أبلغ وأفصح تعبيراً تطلقهُ الفنانة بهذه القوة التعبيرية.
في هذه المرحلة الممتدة بين عامي (2007 _ 2009) وصل الأختزال لدى الفنانة الى ذروته ِخصوصاً في عدد من أعمال هذا المعرض, حيث توارى الوجه والأطراف وبرز وسط الجسد الذي أصبح نقطة الأرتكاز في بناء العمل الفني, حيث نجد أن البناء في هذه الأعمال تتحكم به سايكولوجية النص البصري لهذه الأجساد, أنها تقدم لنا أجساد ملأى بالرموز والأشكال التخطيطية التي تأخذ أحياناً شكل مثلثات أو مستطيلات أو مربعات حيناً آخر, وأن كانت تبدو غير منتظمة كأشكال هندسية ولكنها تشابه الى حد ٍ ما بعض الأشكال الموجودة في الكتابة السومرية والبابلية, أنها تقدم أنموذج بصري في هذه الأعمال التي أشتغلتها الفنانة بألوان ألكرلك على الورق والذي عرض على ألواح زجاجية معلقة, هنا كان لعرض هذه الأعمال بهذه الطريقة خاصية جدا ملائمة للغاية البصرية المبتغاة, فالمتلقي حين ينظرإليها يشعر وكأن هذه الأجساد قد علقت مابين السماء والأرض وأن كانت هي أقرب الى الأرض من دنوها الى السماء, لأن الفعل المكاني الذي نخر هذه الأجساد بتلك الندوب هو على الأرض وليس في السماء, الميزة الثانية لهذه الأعمال, الذي يراها.. يجد وكأنه أمام أعمال نحتية قد نُحتت على الورق, وهذه الميزة تعطي الأعمال بعداً آخر, لأن النحت كما نعرف يعتمد على الحيز المكاني الذي يشغله, أي هناك كتلة تأخذ أو تشغل الفراغ المكاني, وبما أن هذه الأعمال التي عرضت على ألواح زجاجية لا تحتوي على منظور بسبب حالة البناء الذي أعتمدت عليه لحظة الخلق الفني, هذه الميزة تجعل لدى المتلقي حالة من الأسقاط البصري على تلك الأجساد, ليكتشف تكويناتها الجمالية من أستدارات وإيماءات حركية للجسد مرة من وسط الجسد بتجاه الحد الخارجي لهُ, وأخرى من الحد الخارجي للجسد بتجاه وسطه ِ لتكون هذه التكوينات هي النص الذي يعكس ثيمة هذه الأعمال, ولحظة الأنفعال الوجداني الذي تمر به الفنانة في زمن التكوين أو الخلق الفني لهذه الأعمال, أن عدم وجود الرأس والأطراف في هذه الأجساد أدى ذلك الى حالة يعيشها المتلقي هي حالة الصمت والذهول للدقائق, وكأن الفنانة تريد من متلقيها أن يعيش حالة من التماهي أو التجلي مع أعمالها قد تكون أشبه بالصمت الروحي حداداً على هذه الأجساد, لذلك نرى اللون الأسود منساب على هذه الأجساد بتلقائية, وكأن نبض الحزن فيها هو الذي يؤمئ للأتجاه الذي يمضي به ِ هذا اللون, في هذه الأعمال المشار أليها, تعتمد الفنانة تكنيك لوني يختلف عن التكنيك اللوني لأغلب أعمال المعرض, ففيها لا نجد أن الفنانة أستخدمت أسلوب الكثافة اللونية الكبيرة أو أسلوب الكتل اللونية المتقاطعة, وأنما لجأت الى أسلوب الترميز اللوني أو النصي, لأنها أرادت أن توصل فكرة لمضمون أنفعالي يولد أسقاطات تعود بالمتلقي لمئات من السنين الى الخلف عبر تاريخ الأنساني, وبما أن الرؤية الفنية لكل فنان هي عبارة عن (تحويل الأنطباعات الحسية التي يتلقاها من العالم الخارجي الى معطيات جمالية أخرى تؤدي الى صور بصرية جديدة) بعد أن تفاعلت في وجدانيه ِ ومست شغاف قلبه ِ فيحول ذلك الأحساس ويترجمه ُ الى أشكال ورموز محسوسة على سطح اللوحة, تتفاعل معها حواس المتلقي. وهنا تعرض الفنانة بتول الفكيكي لمتلقيها شفافية ضوئية وأنسياب لوني في تناسق وتبادل هرموني متقن, وأخرى تعمل في بناء لوني يعتمد على خلفية للألوان الغامقة كالأزرق الممزوج بضربات لونية للون الأسود, أو البني المحروق الممزوج بضربات لونية حمراء أو سوداء, وأحياناً تكتفي بلون أحادي كالأسود أو البني المحروق أو بلون بارد كالأزرق. هذا البناء وبسبب أستخدام الفنانة لحالة التضاد اللوني للألوان الحارة في تشكيل اللوني للأجساد, أدى الى حدوث حالة لونية أستطيع أن أصفها (بالأشراق اللوني), لذلك يحس المتلقي وكأن تلك الندوب تبعث بالضوء الى كل أرجاء المكان المحيط بهن, هذا الشيء هو الذي ميز أعمال بتول الفكيكي, وجعل هذه الأعمال تأخذ الصفة الجمالية التي تأسر قلب المتلقي وتجعله ُ يقتني هذه الأعمال رغم أن مضمونها يتصف بالسرد الوجداني المحزن للمرأة عبر تاريخها المستباح بالحروب والأضطراب السياسي والأجتماعي مما أدى ذلك الى التراجع والأنغلاق في حياتها المدنية والأجتماعية.
في هذا المعرض لانجد وجهاً للمدينة أو عناصرها المتمثلة بالأبواب أو القباب أو الشبابيك القديمة كما كنا نرى ذلك في معارض وأعمال سابقة, حيث أصبحت المرأة هنا هي المدينة بكل عناصرها وتفاصيلها.. في أحد الأعمال السابقة الذي رسمتهُ الفنانة منذ ُ سنوات نشاهد المرأة تخرج من بين ثنايا المدينة, وكأن المدينة تقدم لنا أجمل مالديها.. هنا أقتربت الفنانة الى أسلوب (التعبيرية المجردة), في هذه الأعمال أختزلت كل المدن التي طافتها الفنانة والتي علقت بذاكرتها منذ ُ الطفولة وهنا لا أقول بغداد كمدينة مفردة وأنما أعني كل مدن وأزقة بغداد, ومدن وحارات دمشق وعمان والقاهرة وبيروت ونسائهن, كل هذه الوجوه والأجساد, سوى كانت لمدن أو لنساء أُختزلن في هذه الأعمال فأصبح هناك وجهاً واحداً يختزل عشرات الوجوه, وجسداً واحداً يختزل عشرات الأجساد.. لذلك لاترى ملامح واضحة لهذه الوجوه والأجساد لمرأة ما أو لجسداً بعينة, وهل هناك أجمل من هذا البعد الأنساني الذي تحمله هذه الفنانة وهي تمضي بنا عبر روايتها اللونية, لنستمع الى هذه القصص وتلك الحكايات البغدادية والعربية المحزنة حيناً والمشوقة أحياناً أخرى, لكن حزّنها الشفاف تحيلهُ وشوشة حكايات النساء وعبثهن الغزلي الطفولي الى حُلم جمالي يتمدد كطيف أزرق أو عشب أخضر لايكترث بكل العوارض الزمانية أو المكانية حين تسكنهما أيادي الشر.. نرى ذلك في أحد الأعمال المدهشة بالأشراق اللوني, حين نجد فتاتين يحملن الأزهار ويمضين ّ وهن يسردن أحدى حكاياتهن المشوقة غير عابهات لما يحدث حولهن وكأن وصولهن سالمات بهذه الأزهار هي الرسالة التي يجب أن يفهمها الرجال والنساء على حد ٍ سواء.
ونجد في هذه الأعمال هناك أرتباط أو تماثل بين أجساد النساء وبين الأزهار والأشجار, نرى ذلك تقريباً في كل مراحل تجربة بتول الفكيكي, لكن في هذا المعرض نرى ذلك الأرتباط يبرز بقوة, حيث ُ الأحتراق والخراب الذي يصيب المدن ويحرق ويقطع أجزاء من الأشجار والأزهار هو خراب زماني مؤقت, لايمضي إلا وقت قصير حتى تعود هذه المكونات الى النماء والتجدد مرة أخرى, هنا تشير الفنانة وتلمح الى ذلك التشابه وذلك الأرتباط, أي أن هذه الأجساد قد يصيبها الخراب وتنهشها ندوب الزمان وحرائق الأحزان, لكنها قادرة على البقاء والثبات المكاني ومن ثم النمو والتجدد مع أمتداد الزمان.. هناك تواطئ مكاني بين هذه العناصر, المدينة.. المرأة.. والأشجار, وهناك تبادل للأدوار بينها, تفرضه ُ الفكرة المجسدة للنص البصري والأستجابة الذهنية والوجدانية لدى الفنانة, أنها تريد أن تخلق المعادل الموضوعي لجمالية النص, فرغم كل هذا الخراب وغبار الحروب الذي يسكن الجسد ويستوطنه ُعنوتاً إلا أن هناك نور يسكنهُ, ورغم يباس الأيام وشحة سُحبها إلا أن هناك أخضرار يفترشهُ, في هذه المرحلة كانت بتول الفكيكي تطلق العنان لهذه الندوب أن تصرخ في داخلها.. وبين ثنايا فرشتها لنسمع الصدى يتردد بقوة في فضاءات أعمالها.. أنها ترسم المرأة وتدون تاريخ حزنها, لكنها في نفس الوقت هي ترسم ملامح حلمها وتموجات رنين عطر أنوثتها الذي ينتشر في كل مكان من هذا العالم الذي نصفهُ ليل ونصفهُ الآخر نهار.
التشكيلي