لا يتعدى (التجديد) - بحسب رأي (غوته) - حدود محاولة(استبدال التقليد بتقليد)ولعل ما يشفع ويؤكد ذلك- بحسب رأيه أيضا- هو (أن ما ورثته عن آبائك وأجدادك...لابد لك من أن تعود فتكتسبه من جديد، حتى يصبح ملكا خاصا لك) وهذا-برأيي- ما كان يعاكس قول (سيزان) حين يدعي بالقول؛ (إنني أريد أن أرسم...وكأن رساما واحدا من قبلي لم يقم بهذه المهمة) نعم فثمة من يعتقد، بأن من لا يحاكي أو يقلد...سوف لا يبتكر أو لا يجدد، ولكي نخرج بأنفسنا من هذه "الدوامة" – في ما يخص أو يمس أو يدحض موضوعات التجديد والتقليد ومتعلقاتها- أجدني أحتمي بمقولة ماكرة- لكنها صحيحة- تفيد بأن؛ (الطبيعة لا تنتج الشيء مرتين).
لقد كنت-بحق- على مقربة من ضفاف تجربة عراقية خالصة وعذبة، أدمنت متابعة نواتجها مذ كنت طالبا في قسم علم النفس/كلية آداب الجامعة المستنصرية بداية العام الدراسي الأول من ثمانينيات القرن الماضي، ولكي أعين ذاكرتي وأديمها بالإخلاص والوفاء والمحبة الغامرة لصديقي القاص والناقد (سعد هادي) الذي زاملني نفس الدراسة -لكنه لم يكملها- كونه من كان يأخذني إلى مرسم الجامعة لنمتع أعيننا بلوحات وتجارب مختلفة، بعضها للفنانة الكبيرة (سلمى العلاق)حيث كانت المشرفة الفنية على شؤون ذلك المرسم. لكن...سرعان ما تدحرجت كرة ثلج الأيام من أعلى قمة الجبل لتتكوم وتكبر عند وادي الظفر بعمق وحجم صداقة بهية ومشرفة جمعتني بالفنان والمصمم والإعلامي الكبير -حاليا-(مؤيد الحيدري) زوج الفنانة(سلمى العلاق)، ليتيح لي كشف مخابئ هذا الولع الحاني بالطبيعة العراقية والخيل والقباب والنخيل وسعفاته، وأيقونات التراث العراقي وغيرها من رسومات جاءت تضييء رسوخ عاطفة هذه المرأة الشاخصة بوعي خاص وعنوان أخَص يتمثل بارتباط تجربتها المتماسكة والمشدودة إلى خيوط حنين طاغ للحياة والعراق في أبهى المعاني.،فلم أستل-عبثاً- ذلك المقطع المعتق من قصيدة الشاعر الكبير(سامي مهدي)؛ "هل يكفي رجل وامرأة... لكي يكون العالم أجمل؟!"، كي أتخذه مدخلا مجردا أو حذلقة احتفالية تسعى لضخ النبض في جسد ومفاصل هذا المقال، الذي أراه متأخرا بحق هذه الفنانة المُجِدّة الكبيرة، بل لشعوري بكمية ما يحمله سؤال الشاعر من تطابقٍ حي وتجانس موضوعي، يلامس حقيقة وطبيعة ما جمع بين(مؤيد الحيدري) و(سلمى العلاق) كزوجين، حبيبين وصديقين محرضَين واحدُهما للآخر في دفع تجربتهما نحو أمام ما تستحق، وما ينبغي لها أن تكون، وعما ينبغي ان تكتشف، فلا يمكن غمط حق أحد على حساب آخر في معادلة غرس شجرة تجربة تشكيلية عراقية-عالمية بامتياز، تماثلت بخلاصات وعي-فيما يخص منجزات(سلمى العلاق)هنا- تحديدا- والتي أسهم فيها(الحيدري) من خلال مجاورته للفكرة ونقده وحواره وحثه المتواصل، فضلا عن كتابته الموضوعية بخصوص تجربة (سلمى) وبما تستحق. بعد أن أنهت الفنانة دراستها الأكاديمية (كلية الفنون الجميلة ببغداد في العام1971)، وهي فترة حاسمة ومهمة، بل حيوية من مسار عمرها الفني وفي صقل موهبتها بما يتناسب، اتجهت نحو تنسيق خطواتها وترسيم حدود غنى تأملاتها الروحية، عبر تطويع مباهج وفتنة الجمال الحقيقي، من خلال محاولات الأخذ به صوب قدسية اللحظات التي تشبّعت بها ذاكرتهُا، وعمق معايشتها للواقع ومشاهدات حية، يومية ومستمرة للطبيعة المتاحة أمامها، هكذا على سجية ما هي عليه، لتعيد تشكيلها واستنطاقها بصياغة خطابات بصرية ومدونات جمالية، تشي بنوع من التوحد والخشوع الذي يلون ويغلف روحَها بالنور ويغسلها بالضوء، قبل أن تلوّن هي مساحات لوحاتها، بفيوضات تتماهى وتنسجم مع موضوعاتها الذائبة في ذاكرة طيعة، مشبعة بروح طامحة، متأملة، وفاحصة لما يجب أن يكون عليه الجمال ،الجمال الذي يوازي النبوغ، إن لم يتفوق عليه في الكثير من الأحايين. ثمة شروط فنية -تكاد أن تكون صارمة إلى حد ما-تستدعي تقييم مثابات الدرس الأكاديمي الأول في حياة (سلمى العلاق) التي تسنى لها هضم أبجدياته وأنساق تطبيقاته، إبان سنوات دراستها على أيدي وخبرات أساتذة أجلاء أمثال الراحل فائق حسن وإسماعيل الشيخلي وغالب ناهي، وخالد الجادر وفالنتينوس، ومحمد غني حكمت،.. وغيرهم من رعيل الفنانين الكبار، فضلا دراسة الخط العربي وفنونه على يد وعقلية شيخ الخطاطين الكبير(هاشم الخطاط)، ما أسهم كل ذلك في تدعيم مساند تجربتها، وتنسيق آفاق مخيلتها، وتوسيع مدياتها، ومد جسور الترابط بين موضوعاتها القريبة والمختارة من الواقع اليومي ومصدّاته الجمالية والفكرية، وبين إطلاق العنان للمخيلة والمعرفة معا في تعميد رؤاها وصدق مداركها عبر البحث والتفتيش عما يتلاءم مع دواخلها، وينتسب لعراقيتها وإنسانيتها المكثفة، ورهافة أحاسيسها حد الذوبان في وحدات وثنايا المشهد الذي تختار رسمَه، وتقيم عليه ابتهالاتها اللونية بشغف وخشوع و إيمان راسخ بقيمة الجمال الذي يسكن عوالم لوحاتها، وبما يماثل ما يسكن في عمق و وجدان دواخلها، هي. تتناوب تقديرات سلمى العلاق وتعدد مراحل تبنيها مشروعا بصريا أضحى خاصا بها، لتنشط تلك التقديرات باتجاه تمترساتها الانفعالية، وتدرّعها بالمحافظة على نسق وروح الرسم بالألوان الزيتية والأكليريك، فضلا عن الألوان المائية، موظفةً قدرتهَا المميزة في التعامل مع اللوحة تقنية وبناءً وتضميناً، وما يتيسر لها من ممارسة متعة نفسية وذوقية واضحة، تعيد لها إمكانية تأثيث ذاكرتها، على ضوء شمعة استرجاعها لبقايا مشاهد وصور من(ألبوم) ماضٍ لم يزل يراوح قريبا من ميول تعبيرية، وتسريبات تجريدية، بعد أن تخطت مرحلة الرسم الاكاديمي الواقعي، لتتناول مواضيعها الأثيرة بشحنة تعبيرية ورمزية أخّاذة، لمعالجة مواضيعها في الطبيعة والخيول والوجوه و مشاهد من الأهوار والبيئة العراقية، والقباب والمآذن، مؤكدة هيامها وولعها الفريد بالمفردات العراقية يغذي نسغ الجذر الضارب عمقا في غرين وجودها. حتى في اللحظات الحرجة من حياتها خارج رحم العراق( حيث تعيش حاليا ومنذ ست سنوات في الولايات المتحدة) نجدها تهيلُ ترابَ حنينها على كل ما يواجهها اليوم من شوق وتفاقمات أحزان الغربة، وأوجاع الوطن العابر للمسافات والمحيطات، من خلال استعادة مقاطع أو مشاهد من تلك الأيام وذاك المكان، تناور في تجميل مفاتن ما فات وما انهدم، بنفس حيوية روح وجرأة اقتطاعها للجزء الذي تريد رسمه أو أرشفته على قماش لوحاتها، فالجزء لدى(سلمى) فنياً قد يماثل الكل، إنها تستغني عن تجسيد جمال ورشاقة النخلة العراقية -مثلا- بأخذ أو اقتطاع ذلك الجزء، وعادة ما تكون السَعفات هي المراد والمبتغى لما فيها من ليونة وانحناءات وحركة وحياة وفضول، يغري الرائي أو المشاهد لتتبع اكتمال بقايا ما اعتاد عليه ورسمه في مخيلته!، لعلها تريد أن تبوح أو تقول في هذا الفصل من فصول تجربتها؛ رؤية الشجرة... تغنيك عن رؤية الغابة، وحركة أقواس القباب التركواز في اللوحة، تنوب عن الشوق للاغتسال الروحي في غرين العراق. وخفقة ُجناح طائر، بوح ٌعميق للروح المُحبة. لم يزل تيار الحس الجمالي التقليدي يعصف بقوة في منجزات (سلمى العلاق) في السنوات العشر الأخيرة، ولكن الامتداد البَصَري والنفسي أصبح ينو ء بثقل نواتج وعي مرهف، يجاوره حزنٌ خفيٌ يرمي -بدِعةٍ وهدوء ٍ حذر- إلى تخليد لحظات حافلة بالحرص والدفاع عن قيم الجمال التي أضحَت تتفتت وتتبعثر في كل يوم، بل، في كل لحظة، ولكن إيمان الفنان الحقيقي هو ما يدفع صوب التواصل والتفاعل والتناغم مع إيقاعات الحياة، وما اللوحة التي حملت عنوان (ألا يا حمامات العراق) كذلك لوحة (من ذاكرة الروح)، و(خطاب النخيل) .. وغيرها، إلا استبشار علني يواكب زحفَ الحياة باتجاه الأمل المنشود، فثمة حضور حانٍ لحركة طيور، ورشقات ضوء، وومضة دمع تطلقها فرشاتها في اغلب لوحاتها، فقد تميزت "العلاق" بقدرتها على اصطياد الحركة وبثها في اللوحة حتى لو كان موضوعها (طبيعة صامتة..!) ، يشي ذلك بأهمية المعادل الموضوعي العام لمعنى قيمة الحرية، وضمن إطارها الوجودي وما يعزز من ثبات الثقة والوضوح وبراعة المشهد من حيث بث النبض وفعل الحركة الماثلة في أغنى حالات سكون وهدوء المشهد الواحد داخل لوحاتها، التي تفردت وتميزت بها(سلمى العلاق)عن باقي التجارب التشكيلية الأخرى، من تلك التي جاورت نهجها وطريقتها في الرسم.
من جريدة المدى