في نصوصه اللونية الفائقة والمتجاوزة لكافة الحالات الساكنة (الاستاتيكية) نجد "جبر علوان" يتماهي لونيا ليتدفق عذبا ومشرقا في ثنايا المسطحات مهما اتسعت لنشعر بوجوده الطيفي أحيانا وفي أحيان ينتثر عبيره ليعبق أعيننا ويملأ أرواحنا بأزهار من ضوء لا تذبل وقادرة علي اشباعنا بنشوة مبتغاة ومأمول في استنباتها مليا في حيز وجودنا المكفهر الباحث عن ملاذات رحيمة في واقع مضجر يتشح بالحرائق والدم المهدور في صراعات غبية لم تغادر بعد مفاهيم الغابات . إن "جبر علوان" هو من يلتقط بوعي متقد مواضيع لوحاته ويتخيرها من بين كل تلك النقوش والتزاويق التي تصنع قلبه وتصيغه ليتدفق حينذاك سيل من ألوان غير آسنة في ثنايا الجسد المتعطش الذي يستحيل رويدا رويدا إلي مسطحات تصافحها الأعين وتتوق إلي ودها القلوب فتتفجر في دخيلة المتلقي بهجات وما إلي ذلك من مشاعر وأحاسيس متواشجة مع ما يطرحه الخطاب البصري الذي يستهدف فيما يصبو إليه ذلك التواشج الوجداني الحميم الذي يعبر إلي دواخل النفوس في طمأنينة و دونما استئذان حيثما يكون قادرا علي الولوج الاقتحام المبررين بوحود كبير لسمات أصيلة من الطهر والمصداقية اللتين تتحليان بتغلغل مشروع في فضاءات مهيأة للاستقبال والتفاعل. شبق وعزلة وفي عالمه التشكيلي كذلك احتفاء دائم وأبدي بالحيز الحاوي لحالات متجددة من الشبق والعزلة والانزواء والتأمل و مصافحة المجهول أو ترقبه في لحظات عديدة تكتسب تاريخها ومعناها من كينونة الشخوص والعلاقات المتحققة فيما بينها وبين كافة الأشياء والمكونات الواردة في الهيئة اللونية التي يطرحها هذا التشكيلي المتربص علي الدوام لقنص الجمال في أسمي انطلاقاته وأنبل تحولاته. وفي لوحات جبر تستطيل الشخوص لتطاول الفضاء وترسخ تجذرها في البسيطة ، وفي هذا الطرح الآدائي يزاوج الفنان بين الواقعي والمخيلاتي من خلال الهيئات المرئية المميزة لشخوصه من رجال ونساء وكذا الحال بالنسبة للعناصر الأخري التي نراها منتثرة في ثنايا اللوحات من أرائك أو آلات موسيقية وأسرة أو أي من الآفاق اللونية الأخري المستدرجة إلي لوحاته البلاغية. إن الرسم في لوحات جبر علوان يتواري في سلام ليتسع المجال لأمواج اللون لتتدافع وتتلاطم في قوة هادرة صانعة لعالم تشكيلي متفرد ومميز لشخصية الفنان وأسلوبه التصويري الشهير والمتعارف عليه في الأوساط المحلية والغربية أيضا. وعن سمة أساسية في بناء وتكوين اللوحة لدي الفنان يري الناقد العراقي محمد الجزائري: في لوحاته دائما ثمة مركز، يشكل الثقل الاساس فيها، اما الاجزاء الاخري فتماثل الفراغ في (النحت)، اي تتوزع وتتناغم لتخدم المركز. وحيث تكون هناك ضرورة الحذف فقد استعاض جبر عن ضخامة الكتلة باتساع اللوحة ففي (افساحه الكبيرة) يتحرك الفنان المجتهد بكفاءة وحرية.. والحركة في لوحات الفنان تظل هي أيضا عنصرا مميزا لشخوصه الراقصة أو العازفة علي آلات الموسيقي أو حتي تلك الشخوص الجالسة التي تنقلك تلقائيا للتفكر في حالات ما قبل الدعة والسكون حيث صار المآل إلي ظهور هادئ ومتراخي في عدد وجيز من اللوحات. ويمكن القول في هذا الصدد بأن الحركة أو الاستلقاء والتراخي في لوحات الفنان هما مفتاحي التعبير وهما القادرين دون غيرهما علي القيام بدور الوسيط بين الفكرة المستهدفة من قبل الفنان والمراد تحقيقها وتفعيلها في أرجاء المسطحات البصرية علي اختلافها وتنوعها. مما يثير الإعجاب والدهشة في لوحات علوان أن شذرات اللون وأطيافه تنطلق في الأجواء إثر الاشتغال الكائن بالعزف علي آلات الموسيقي المختلفة كالاوكرديون والبيانو والكمان وهو توحد والتقاء جميلين بين عذوبة النغمات الصادحة ورونق الألوان المنبثقة.
معطيات جسدية المثير حقا في لوحات جبر علوان هو تلك الرحابة والاتساع الكبيران المميزان لهذه اللوحات وما تعلنان بصريا عن تقديمه والاحتفاء به وطرحه وكأن علوان قد عبأ اللوحات عن آخرها بشهيق طويل لا ينقطع ولا نهاية له حينما تهب النسائم ليخطفها إلي داخل الصدور من يمتلك رئتين لا تضمران أبدا أبدا إلي حيز ضيق ومعتاد. والجسد الإنساني في شتي صوره يظل مادة ثرية وأثيرة لدي الففنان الذي يؤسس مشروعه التشكيلي متكئا علي كثير من المعطيات الجسدية وما تحويه من طاقات وغوايات وافتتانات ، وعن الجسد في أعمال علوان يذكر الناقد والتشكيلي السوري طلال معلا في دراسته المعنونة ب " صدمة الحياة والموت في التشكيل العراقي" : إن جبر علوان اكد في مختلف مراحله علي انجاز الصلة به، خاصة ان غيابه الطويل عن بلده جعل الاشارة البصرية تستحيل إلي اشارة بصيرية في تناول هذا الجسد سواء بإبراز مواقع الجمال فيه او بالتركيز علي ألم الواقع المعاش الذي يجعل منه كتلة هامشية، وبخاصة المرأة باعتبارها خزاناً خصباً لتجاوز الوجود إلي سره. إن أعمال جبر علوان تبقي - لأزمنة مديدة وقد تبوأت مكانتها اللائقة بها في الأرواح الشغوفة والعاشقة- برونقها وعذوبتها وجرأتها وقلقها وصرامتها وبزوغها الهادر وهي بأبلغ التعبيرات الموجزة التي صاغها الكاتب المسرحي الكبير سعدالله ونوس قائلا بأنها:" "حفنة من الألوان القزحية. وحفنة من الأضواء السرية، وموهبة سحرية قادرة علي أن تبدع بدءاً من هذه المواد المتقشفة لوحات هي كالرؤي تغير كيمياء الجسد، وتغير حالته المزاجي |