لم يعد المشهد التشكيلي العراقي مشهدا واحدا،تتنوع فيه الرؤى والأساليب في إطار وحدة أطلقنا عليها عنوانا مضيئا اسمه الفن العراقي الحديث.بل بات مشاهد متعددة، تباعدت فيها الاطروحات وتباينت خلالها التجارب الفنية. بعض الأوصاف العامة لهذه المشاهدة: تفترض وجود منجز فني مازال كثير التعلق بعملية إعادة لحظة التأسيس الأولى والتي تجاوزت النصف قرن، وهي التي جعلت من الفضاء التعبيري مرادفاً للهوية الوطنية، وتمثيلهما في الرسم أو النحت،حينا بأسباب الموروث الحضاري وأخرى بإجراءات الحداثة في خبرتها المحلية. فيما توجد تجارب أخرى لفنانين باتوا أكثر قربا للاتجاهات الفنية المعاصرة، ومن الذين أدركوا تماما أهمية الأثر الذي أحدثته تلك الاتجاهات والمتغيرات التي حصلت في أشكال التعبير الفني.
التجارب الأولى، وهي على الأغلب تنتمي لفنانين عراقيين في الداخل، مازالت تحمل موضوعات ومعاني، لا أقول إنها لم تعد فاعلة، بل تم استهلاكها لطول فترة مكوثها في المشهد التشكيلي، وتكرار نفسها ومنجزها حتى وان احتفت بدوافع مغايرة وشروحات جديدة تبرر أوضاعها. بينما التجارب الثانية، وهي المنتمية للعديد من الفنانين العراقيين في الخارج، لا تسعى سوى أن تؤكد التحاقها بفضاءات التجارب المعاصرة للفن في العالم. وتطمح إلى تمايز حضورها في شبكة فنية غربية، غامضة، وعسيرة التعيين، اسمها فنون ما بعد الحداثة. التجربتان الفنيتان تنتميان إلى الفن العراقي، أو أكثر تحديدا، لفنانين عراقيين، ما يستدعي سؤالا يكرس أهمية هذه الخصيصة، هل ان التجربتين حققتا معا حالة التواصل مع اللحظة التأسيسية والتاريخية الأولى، أم غادرتاها؟. وهنا لا اعني الامتثال لها، ولكن، إدامة هذا المشروع المتفرد الذي أطلقنا عليه الفن التشكيلي العراقي. ما يبقي أهمية تلك اللحظة التأسيسية، كونها لم تكتف فقط بفضيلة الريادة ولكنها كانت مشروعا أسس لسؤال يبدأ من التجديد ويحقق امتيازه بالفارق والإضافة إلى المنجز الفني، " جماعة بغداد للفن الحديث " مثال على هكذا امتياز. ولكن بعد أكثر من خمسين عاما، يصبح مثل هذا السؤال، شديد التعقيد، وفي حاجة لأكثر من بيان لجماعة فنية أو قراءة نقدية أو حتى الاحاطة بتاريخ تلك المدة لافتراض إجابات ملحة. لطالما تم توجيه الشكوى لجهة الخطاب النقدي الذي لاحق الحركة التشكيلية في العراق، بوصفه تقييما اخضع أحكامه للطروحات الثقافية وللقاموس الأدبي أكثر مما انتهى إلى مواقف جمالية وفنية تقترب من خصائص المنجز الفني ذاته. أي انه كان يفتقد خبرة فاحصة للفصل بين ما هو ثقافي وتاريخي وبين ما هو جمالي وتعبيري، والتمييز بين مزاعم يدعو إليها العمل الفني وحقيقته البصرية الخاصة. إشكالية مازالت قائمة حتى اللحظة، وهي تفترض بالضرورة الحاجة إلى قراءة أخرى، أكثر تجريبية واقدر على المعاينة وقابلة على التراكم، لاستعادة لحظة تعبيرية جديدة، تديم مشروع الفن العراقي وتدل على الإضافة إليه وليس الاختلاف عنه!.
|