|
|
المرئي والمكتوب لحاتم الصكر: هل اللوحة حكاية أم لون وحركة فرشاة ؟ |
|
|
|
|
تاريخ النشر
18/03/2008 06:00 AM
|
|
|
يستقريء الناقد العراقي د.حاتم الصكر في كتابه الجديد (المرئي والمكتوب )التحولات الراهنة في الخطاب التشكيلي العربي المعاصر،متناولا التحولات في الجانب المرئي للصورة والجانب المفاهيمي من خلال مدخل شعري للعلاقة بين الصورة التي يرسمها الفنان لما يراه أو ما هو كائن فعلا خارج رؤية الفنان الذاتية: يقول الصكر في كتابه عن العلاقة الإشكالية بين الصورة والكتابة، الصورة والقراءة: من يطالع ديوان الشاعر جميل صدقي الزهاوي (1863ـ1936) المعنون (الأوشال ) يقرأ بيتين كتبهما الشاعر تحت صورته الفوتوغرافية هما: إذا نظرت صورتي تقرأ فيها سيرتي حتي كأن سيرتي مكتوبة في صورتي ويشير لتحليل له في كتاب سابق عن هذا الحوار المعقود بين (الكتابة الشعرية والصورة) المنشورة لوجود تجسيد للعلاقة الأيقونية بين (الشيء وما يشير إليه) دون دور للخيال أو توسيع الدلالة فالقراءة ستكون اختزالية لبيتي الزهاوي وتحولهما إلي معادلة بسيطة: صورتي = سيرتي أو سيرتي =صورتي وبذا يصبح تأمل الصورة كقراءة السيرة، مما يعادل القراءة والنظر أيضا: النظر =القراءة القراءة =النظر والصكر في هذا الكتاب المهم: لا يستقريء ملامح هذا التحول في الأعمال الفنية المنجزة علي السطوح التصويرية فحسب بل يهتم أيضا بدراسة التحول في التنظير المفاهيمي الذي يعكس جانبا من تصور الأزمة التعبيرية والأسلوبية ومراجعة صلة الرسم بالحياة والواقع والإنسان وبالثقافة والتراث والفنون. ما أثارته صورة الزهاوي في د. الصكر أثارت مشاعر شتي في عشرات الكتاب والفنانين العراقيين عبر عقود من السنوات ولا زلت أتذكر وقوفي أمامها وأنا شاب صغير أجيء إلي بغداد قادما من البصرة لقضاء أمر ما أو لزيارة أقارب أو لتمشية معاملة رسمية أو لقضاء العطلة الصيفية في العاصمة، فيكون شارع الرشيد هو مكان النزهة الأثير، وأمام واجهة زجاجية لأستوديو (أرشاك) تطالعني هيبة الشعر، من خلال تلك الصورة التي وصفها الصكر في كتابه خير وصف: (يظهر فيها الشاعر بنظارته ولحيته البيضاء الكثة وصلعته، وقد جلس مسترخيا علي كرسي فكأنه نائم، بينما ترامت تحت قدميه أعقاب السجائر، فكأن التعب والإجهاد والبؤس تتلخص في محياه الذي زادته الشيخوخة إرهاقا، ورغم توثب نظرته وتألق عينيه بنظرة تنفذ من زجاج نظارته...) ان المعادلة التي يعقدها الكاتب بين الصورة والسيرة والسيرة والصورة من أكثر المعادلات التشكيلية في وقتنا الراهن التباسا، فمنذ اختراع آلة التصوير الفوتوغرافي التي تنقل الواقع كما هو لم تعد المماثلة في الرسم التشكيلي تثير الرائي ولم تعد القصة مطلوبة أو ذات جدوي في اللوحة التشكيلية، وصارت اللوحة التي تنقل قصة أو حكاية من الماضي البعيد، واهتم الفنانون العرب المعاصرون بالرجوع إلي ما كانت تفعله تلك المرأة العربية الفنانة تحت خيمتها وهي تنسج ثوبا أو زربية بألوان مبهرة وجمال أخاذ. يقول الكاتب عن هذه الإشكالية ص11 : (ان الفنان يحول المرئي إلي إشارات أو علامات، فصرنا إذا قرأنا (المدينة) مثلا كمفردة في عنوان لوحة أو معرض، نتهيأ لتسلم تمثيلات بصرية ليست تعبيرات حرفية عن هذا الوجود المنظور وغير المنظور معا من وجود المدينة أو انطباعا بصريا عن المدينة كوجود جغرافي وعمراني وبشري..بل كتمثيل لذلك الوجود وانعكاسه في وعي الفنان وشعوره). يتناول الكاتب في القسم الأول من الكتاب الفنانين الرواد من العراق جواد سليم ويتناوله من جانب تأسيسه للحداثة الفنية والرائد شاكر حسن آل سعيد من جانب تنظيره وتأمله والرائد هاشم علي من اليمن الذي أفلح جهده الفني الخلاق والعفوي في جعل الفن ممكنا في اليمن السعيد الذي يشير ماضيه الحضاري والفني بحاضره تماما بل يتفوق عليه في أحيان كثيرة. يتناول الكاتب الإشكالية التي عاشها صاحب أشهر جدارية في بغداد (نصب الحرية) الرائد جواد سليم من خلال مذكرات الفنان فالفنان يصير أمام اختيار صعب، هل يختار للتعبير الرسم أم النحت فقد قال في إحدي يومياته: ( 1945/10/3بعد إنجاز صورة شخص (الفراش حسين): (استقر في رأسي شيء خطير وهو أني لا أصلح أن أكون رساما لأني أري شيئا وفرشتي تعمل شيئا آخر). أو قوله في (1944/5/29.. (أنا أعيش في القرن العشرين وتقسيم قواي بين الرسم والنحت من المؤكد سيوصلني إلي لا شيء). وقد كان جواد سليم رساما ماهرا كما تشي بذلك مجموعة من البورتريهات التي رسمها ومنها علي سبيل المثال صورة (الشاعرة لميعة عمارة) التي تشي بتعبيرية شاعرية تحفظ جمال الوجوه النسائية وفتنتها السابحة في ألوان رصينة متناغمة مفعمة بالحيوية والشباب والجمال القريب بأبعاده من الرسم الأكاديمي، مع متعة في رسوم الواقع ومفرداته، تلك التي لا تخضع له كمرجع أو نسخة أصلية، بل تبتكر وجودها الخاص داخل العمل. وربما أكثر المواقف غني في حياة هذا الفنان الرائد والتي تدلل علي أنه يعيش في عصر متقدم فنيا علي عصره عندما رفض عمله (منحوتة ـ المصرف الزراعي التي صممها جواد للمبني الجديد للمصرف وتمثل فلاحا وزوجته وطفله يتوسطهم جذع نخلة، لكن حجة المشرفين عند رفضهم للعمل أنهم كما تقول زوجة الفنان ـ كانوا يريدون تمثالا مباشرا: فلاحا يقف أمام شباك المحاسب وبيده رزمة أوراق نقدية!! ويتناول د. حاتم الصكر الرائد شاكر حسن آل سعيد كمنظر ومتأمل فيقول عنه ص59: إنه طراز من المبدعين الذين يعيشون حياة شاملة أشبه بتكوين الجوهرة الثاوية بعيدا بين شقي الصدفة، والمنتظرة أن تكتشف، فلا سبيل لمعرفتها إلا مرة واحدة، معرفة شمولية كاملة تلغي الزمن فيصبح ماضيها حاضرا أيضا. ان تجربة الفنان شاكر حسن آل سعيد الحروفية باستخدامه للحرف العربي بكل محمولاته الدلالية والجمالية كتشكيل موحٍ نقلت شرقا وغربا في الوطن العربي وصارت مادة للتأثير في الكثيرين من الفنانين العرب وتحولت بتتابع العقود إلي مدرسة فنية لها شيوخ ومريدون وجمهور واسع من المهتمين والعاشقين وأخذت تطالعك في صالات كبري الفنادق العربية لوحات حملت التجربة الحروفية بأدق تفاصيلها كما فعلها أول مرة فناننا الرائد شاكر حسن آل سعيد. يتناول الصكر في كتابه حادثة موحية ص 62: ولأقول أن لوحته المزدوجة التي أهداني إياها، أختار لها عنوانا محيرا هو (كتاب) لكن حيرتي زالت إذ استعدت جهده الحروفي واستراتيجية النقطة والخط في أعماله، وأخيرا تدميره المتعمد لزوايا النظر التي يتقدم بها المتلقي كاقتراحات قراءة وتأويل. انه يشوش متلقيه حتي ليتمني أن يري عمله (المزدوج) رؤية خرافية: وهي أن يراه بوجهيه مرة واحدة.وهذا مستحيل. لكن وجهي الورقة المرسومين ليسا إلا دفتي كتاب، أو غلافه الجلدي بجزأيه ومن هنا كانت فكرة رسم كتاب تشكيلي، وإهداء هذا العمل لي شخصيا، فهو يترجم رؤيته لي أو يجذ ر ويصنف علاقتنا بهذا الصنيع انطلاقا من نظرته كاتبا... ويكمل الصكر: ولكن دهشتي ازدادت إذ وجدته يدس في يدي، وهو يسلمني اللوحة، رسالة. ثم ينشر رسالة الفنان ورده عليها ومن خلالهما يشرح الفنان كمنظر وصاحب نظرة تأملية صوفية. يتناول الصكر الفنان الفطري اليمني هاشم علي (1945ـ) الذي صنع تجربته بعفوية ص 76: الفرص لم تتح ـ لأسباب نجهلها ـ لفنان مثل هاشم علي، لكن ذلك لم يمنع أن تتحول فطرية نشأته وتعليمه الذاتي إلي طاقة هائلة تفلح في جعل الفن ممكنا وتنجح في انتزاع الاعتراف بالفن من مجتمع يجحده ويقصيه.. ويهتم الفنان بالتعبير المباشر ولم يقل مؤلف الكتاب أن الفنان يهتم برواية قصة في كل لوحة من لوحاته بل عبر عن ذلك بقوله التعبير المباشر عن ثقافة المجتمع ويتناول من أعماله المهمة في فترة السبعينات لوحاته الخاصة بالمهن والحرف والأعمال التي يؤديها الإنسان في البيئة وهي ذات جماليات خاصة تنبع من العذاب الإنساني ويتناول لوحته الشهيرة (دجاجة عمتي) التي يتناص عنوانها مع حكاية أو أهزوجة شعبية يمنية تتحدث عن التقسيم غير العادل للكسب، حيث يأكل صاحب الدار الكبير لحم الظبي كله، بينما نجد اللوحة المنفذة بمادة الزيت علي القماش تسرد لنا بشاعرية أخاذة عودة صياد بائس مبالغ في ملامحه لدرجة كاريكاتورية وهو لا يحمل إلا رأس سمكة كبيرة وبعضا من عمودها الفقري ويحيلنا بذلك إلي صورة بطل (الشيخ والبحر) لهمنغواي بينما تغرينا كما يقول الصكر ص 79 المفردات السردية في اللوحة بتأمل الحزوز التي صنعتها العصا التي يحمل بواسطتها الصياد بقايا سمكته إلي جانب التركيز علي ضخامة اليد وخشونتها وبؤس الملامح في الوجه، مما يقرب هذه النزعة الكاريكاتورية من أساليب فنية أخري كالتعبيرية والسريالية. في القسم الثاني من الكتاب يكتب الصكر قراءات تشكيلية عن تجارب لتشكيليين معاصرين تفرقهم أشياء كثيرة كما يقول الكتاب وتوحدهم أشياء قليلة هم: عبد اللطيف الصمودي، طلال معلا، حكيم غزالي، مصطفي علي. فقد ارتضوا لأعمالهم الفنية اسما مشتركا هو (تمارين ذهنية بصرية) ويعبر عن ذلك الكاتب بقوله ص94: إنتاج ثقافة بصرية تحرر النظر من اشتراطات اللوحة بالمعني التقليدي. ويتناول الكاتب في قسم من الكتاب (الأثر والمحيط في رؤية تشكيليين شباب) تجربة فنانين عراقيين برزوا في الثمانينات والتسعينات منهم: هناء مال الله وفاخر محمد وكريم رسن وغسان غائب وحيدر خالد ونديم محسن ونزار يحيي وإيمان علي وهيمت محمد علي ورحيم ياسر وعلي المندلاوي وعمار سلمان وسامر أسامة ومحمود العبيدي وغيرهم ويتناول من المشهد اليمني التشكيلي المعاصر (فؤاد الفتيح، عبد الجليل السروري، سعد مبارك، عبد الجبار نعمان، حكيم العاقل، آمنة النصيري وغيرهم ممن عادوا من الخارج كمظهر نزار وريما قاسم. ان كتاب المرئي والمكتوب ـ الذي للأسف لا يمكنني هنا تغطية كل محتواه الفكري والفني ـ يعتبر إضافة حقيقية للمكتبة العربية، رسم لنا من خلاله د.حاتم الصكر لوحة بانورامية وشعرية ـ امتاز بها الكاتب في جميع كتبه النقدية السابقة ـ لإشكالية الرسم التشكيلي في فنوننا المعاصرة والتحول المزاجي والنفسي لصورة الفنان التشكيلي العربي الذي يرسم ما يري ولا يري أيضا ليقنع مشاهديه أنه لا يجعلنا في النهاية نهتم بما يرسمه من خلال مسروده القصصي بل من خلال الرؤي الشعرية والجمالية للون، وحركة الفرشاة في لوحته الفني
|
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ فيصل عبد الحسن
|
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| |
|
|
|
|
|