|
هامش [ 1 ] جدل الرحيل والسكن المؤجل
مع ان الحداثة مهدت ، بصفتها مأزقا أو مسارا ً قادته انهيارات الثوابت ، لما بعد ـ ها ، في الفنون والثقافات الغربية ، فإنها مازالت ، في مراكز تبلورها ، وعلى امتداد المحيط غير الغربي ، تستند الى ذاكرة نشوء أقدم الاستجابات مع الفضاء ، وليس مع الأرض . فالنحت ، كإشكالية جسدية خالصة ، عمل على اختراع توازنات بين العناصر المباشرة ، واللاوعي السحيق الذي غادر ديالكتيكه الزمني ـ التاريخي . فثمة ما هو مشترك ، بالإضافة الى الجسد والخامات والعناصر والميثولوجيات وعلم تأمل الوجود ، يكمن في الفضاء . فالأخير ، ليس فراغا ً في كهف ، أو في معبد ، أو في ساحة مدينة ، وإنما ، بدءا ً من المساحة أو الإطار ، يتجه نحو اللامحدود ، وقد غدا ، عبر النحت ، علامات تواصل ، وتعاقب ، وديمومة .
ومنذر علي ، في مجسماته ، ينتمي الى الجيل الثالث من النحاتين العراقيين ، بعد جيل جواد سليم ومحمد غني حكمت والكيلاني والترك والوكيل والقره غولي .. وبعد الجيل الذي أعقب الرواد ، حيث القطيعة ، معهما ، تنعدم . ان اشتغاله بمادة الخشب ، لفترة طويلة ، واختياره لموضوعات الأمومة والمرأة وإعادة صياغة موضوعات المأوى والألفة البشرية ، وانشغاله بالرسم مؤخرا ً ، وضعه في مجال الاهتمام المشترك ، والمتجانس ، والمختلف في تنويعات النحت المعاصر في العراق . انه المشترك الذي لا يغادر مفهوم المرسل والمستلم ، منذ شكلت الكتلة النحتية المبكرة وسطا ً وجسرا ً بين الفضاء الخارجي ـ الذي لم يعد هامشا ً ـ والمركز . فالهامش ، في النص الأدبي ، أو على صعيد دراسة المكان ، بل وعلى صعيد ردم ازدواجية الروح ـ الجسد ، أو الداخل بالخارج ، مكث يمهد لدراستهما معا ً ، وليس بعزلهما ، حتى على صعيد الدراسات الأكاديمية والنقدية الحديثة .
منذر علي ، الغزير في العمل ، دمج ، في مجسماته ، موروثات متعددة ، ومع تحديد سماته الأسلوبية الشخصية ، مكث يبحث في محركات ـ ديناميات ـ التواصل ، للمشترك النحتي : النسغ الداخلي ، في علاقاته مع هذه المكونات : الفضاء وقد غدا مجاورا ً تنويعاته ـ علاماته ـ المكانية ، إذ النحت مكث يخترع نحاتيه ، بذات التجذر ، لا يغادر النحات موروثات النحت بتعاقب مراحله .
هامش [ 2 ] المأوى ] أو [ فضاءات المسافر ]
تتوازن الكتلة النحتية عند منذر علي بين الفضاء و محتواها الداخلي : أنها تعلـــــن عـــن مأوى مقلوب : عن ذلك الشكل الذي كف ان يكون خارجا . فالنحات يحقق اعقــــــــد معادلة بين المادة و بين ما هو آنساني ..معادلة تجعل الحياة تعلن عن أطيافها عبــــر السكن الوجيز : فالنحت لا يعلن عن مباهاة ,آو تذكارات , فهو يتقاطع مع الدور الوثــــني له ،ليعلن , بهدوء , عن وحدة الساكن بالسكن .انه انشغال قديم قدم علاقة الأصابع بالمخيلة : فالسكن مهد للمسافر رمزية المأوى ، والإقامة .
هنا يحدد النحات هدفه : فالرمز يتجلى بالبعد الواقعي , بما تتضمنه الواقعية ضمنا بما تريد ان تتخلى عنه , ذلك الهاجس بالأمومة المستحيلة أو بالسلام المؤجل 0لكن ما يتم أ إيصاله , عبـــــر المفهوم الواقعي , لا يتخلى عن المأوى – الرمز0 انه يلعب بعناد من وبّخ على ذلك . فالـــــفنان يتخلى عن التابو( المحرّم ) ليمارس فتح فجوات داخل الفضاء: السكن المفتوح أو الذي لا حدود له..لان الإشكالية و ان كانت ذات بعد نفسي – اجتماعي لكنها تبقى فلسفية :ماذا تفعل هذه الكائنـــــــات داخل متاهتها ؟ ان من مميزات هذا الفن ، الذي ولد مع الأصابع ومع حاسة الشم ، انه يحــمل ( حمل ) أسئلته معه عبر العصور ، بل صار الإنسان ذاته- عنده -ضمنا - حاملا لدوافع التمثل ،وكأن القضية قد اتخذت هذا المسار 0 فالنحت - عنده – ليس نحتا ، وإنما هو يصير مضادا له ، فمنذر علي ، داخل الفضاء ، يقتنص بعض التقاطعات ، ليصنع منها أشكاله الخــشبية ، انه لا يصنع أو يفكر بصناعة آلهة قديمة ، بل يتخلى عن الأساطير وهالات المـــــــجد لصالح سحر علاقة الحواس بالخامات : علاقة الرؤيا بصلابة المادة وكثافة العلاقة بين الذات وما يحيط بها 0 انه السكن المقلوب ، حيث الأجساد عنده لا تكف عن عمل تذكارات البـــــيوت الأولى : ذلك البحث المباشر ، والغريزي ، عن تجاور يَطَّرِد مخاوف العزلة والشقاء ، فالفنان يعمق مسارات عديدة في النحت المعاصر في العراق : شذرات تتصل بمنعم فرات ، وخالد الرحال ، ومحمد غني حكمت ، وخليل الورد : هذا المناخ العام الذي يعيد للإنساني مداه فـــي عـــصر قســــوة الحداثات( في قطيعتها مع ماضيها ) وهي تمارس إزاحتها الكبرى 0 فتمسك منذر علي ، بفضاء كثيف ،داخـــل كون يكتم ما يريد ان يقول ، ينقلها الى استئناف لذائذ غائبة : الكهف والمغارة والكوخ والرحم / البيت القــــــديم خارج كل الحراسات والأذى : حيث الاتساع يقيم علاقة تجانس مع الذات ، وهي لا تكـف عن إعلان أملها . انه يلتقط تلك الذكرى ، حيث أنتج الفنان القديم ، أولى العلاقــــــات الحمـــــيمة ،بعيداً عن التشيئ والاستهلاك ، ففي هذه المصغّرات ،لوعة دفيــــــــنة ، واخـــتراعات أزمـــــة غادرت الصخر والطين واللحم البشري ، لتسكن في عمق النسغ : في الشجرة . فالحــــــــــياة عنــــده لا تغادر ســرها ،ولا جوهرها ، فهو يجعل الغابة قائمة في السيقان : الغابة البشريــــة التي ستصبح سلسلة من العوائل ، من النساء و الأطفال والرجال وهم في سفر ، وهم في بحث دائم عن وحدة عميــقة خـــارج حدود التصادم ، وقسوة الأضداد ، فرؤيته تبقى تحمل باثــــات الصوفي نحو الفناء ، والاستـقرار المستحيل . ولعل شخصية الفنان ذاتها ، وبعد عمل طويل وصبور ، صارت لا تختلف عن نداء الشجرة في مواجهة النار . انه يصنع التعويذات وطواطم نجاة ، وعبادة بدائية في قلب حداثات الألـفية الثالثة : نداءات شفافة : يجعل فيها الخشب يتكلم بصمت المرأة ودندنات الأم مع صغارها في فضاء عارٍ من الجدران ، فالفضاء يجعل الــــسفر ذاته أشبه بالإقامة ، حيث يصبح الخطاب مسموعا ، ليقفز ، خارج الحواس ، نحو النبض الكامن في اللانهائي 0 هذا المأوى الأبدي ، عنده، يجعل أقدم النصوص تتخذ شكل آخـــر الحداثات : البدائية المشبعة ـ ضمنا ـ ، بالحواس والمعرفة ، فالنحات يعيد صياغة مواقف الذات أمام الامتداد : ذلك الأسى الخفي داخل الجسد كله وليس في ملامح الوجوه فقط ، انه الجسد، وقد صار كثافة حنين ، بعد ان صار كتلة من الشــــــجن والآنيين ، لكن المـــعادل الموضوعي يبقى يظهر العلاقة بين المحدود واللامحدود ، بين الجسد والهدف غير المرئي ، فكائنات منذر علي ، تحدق : إنها ستصبح أداة رؤية : حيث المـــأوى يبقى خارج الســــفر ، وداخله أيضا ً ، انه العلاقة الخفية بكل جدلها الكوني ، والإنساني ، علــى حد سواء .
* ضد النار – مع النسغ .
لا يختار النحات الطين ، مادة أساسية ،لفنه 0 انه يكاد لا يفكر فيه إطلاقا ، حيث يعّول على الخشب ، مادة لرموزه التعبيرية ،وخطابه الجمالي ، ومع ان منذر علي قد درس فن النحت في أكاديمية الفنون الجميلة ، ومارس فنه فترة طويلة ، إلا انه ينحاز لمـــــادة تبقى تحـــمل أسرار حياتها البكر : فالخشب لا يمثل الموت ، والسكينة ، بل يبقى يحمل أولى الحســـاسيات بين الفضاء الخارجي ونبض الكائنات الحية 0 انه يتمسك بالعائلة في سر تكونها القديم ، والأكثر تعبيرا عن علاقة الأسئلة بالأسئلة المتجددة 0 فالكـــائنات الجــــديدة ، لا تنفصل عن إعلان مرجعياتها المطمورة داخل الذاكرة 0 ذلك التـــــوقد ، الذي لا يكف ان يتجلى وينـــــبثق مـــن الخشب ، وقد أزاح النحات عنه القشور ، ليجعل منه كائنات تحمل ذاكرة توهجها 0 فالكتلة ، كما كان يقول ما يكل انجيلو ، تخفي الأشكال 0 وهنا، عند منذر علي ، تسكن الأشكال داخل مأواها ، داخل الخشب ، حتى تتوحد معه 0 كان مايكل انجيلو يزيل الحجر عن كائناته الحبيسة داخل الصخر ، لكن منذر علي ، يتركها تغادر.… فهي مخلوقات تحمل السفر معها إقــــــامة داخل الفضاء الكبير . فالمركز يتنقل ، ولا يستقر 0 فالغابة تتوحد مع جذورها ، كما الجبال تظل متحركة كأنها السحاب . هذه العوائل ، ليست خشبية ، بل تتوحد مع النسغ الحـــي ، ومع روح الأشجار ،لــــتعلن عن طواطم شفافة ، تحمل معها رائحة الليل ورائحة الماء : وعن كائنات نراهم أمامنا في الأسواق القديمة وفي المدن الحديثة 0 فالنار توحدت مع التراب ، ومنـذر علي ، يخشى من النار ان تقترب من كائناته ، ليحافظ على سر الشجرة داخــل الكائــــنات البشرية ، الأنثوية في الغالب 0 انه يحافظ على حركة داخل مجسماته ،لينفي مفهوم النحت، ويعيد له بعده الحيوي ؛ ذكرى الإقامة في السكن المجهول والتحديق ، أبـــــــدا في أ مـــل لا يغادر مدى البصر والحدس معا 0 هذه الأمل ، لايسكن الطين ولا الحجارة ولا المعـــادن المختلفة ، انه يسكن أكثر المواد تعرضا للأذى والتلف 0 فالشجرة ، مثل المرأة ، لا تكف عن إعادة إنتاج مصيرها ، أو قدرها ؛ والنحت سيكرر موضوعات العائلة ، بتكرار الإيقاع المتوازن بين الفضاء والكتلة : الإيقاع السومري ، في الغالب ، حيث حضارة الطين تتقمص الطواطم الوليدة ، المحذوفة حد الاكتمال 0 فأشكاله ستصبح أطيافا ،وكأنها تخلت عن الخشب الميت : إنها ستبث محركاتها ، عبر ما تحمله وما تتضمنه الخامة 0 فالحياة تمتد ، مع الوجوه المحدقة في الأفق 0 فهي تشكل خطا عموديا مع الأرض،ومن النادر أن تنحني : أنها تتوازن للتعبير عن السير، والتقدم. فعلى الرغم من ثبات الشجرة ،واقعيا، آلا أنها تحمل رمز الحركة ،وما توحي به من دلالات للخصب و الأمل 0 فمادة الخشب لا تتصلب لكنها ليست هشة، و ليست مفككة 0 فهي تحافظ على الأشكال ، عبر علاقات الأقواس و الخطوط المنحية 0فالنحات، بما تتضمنه البنية من تعبير ، تجعل الإيحاء منحنيا، كما الزمن، بعد ان أضاء ( اينشتاين ) فكرته الفذة: الأنحاء نحو الداخل ،لكي تنبثق الولادات مره أخرى بما تمتلكه من علاقات بين المادة و الطاقات 0 فالعائلة تتجمع في سفرها ،و تنقلها،مهاجرة في العائلة الكبرى: الكون المنحني،ولكن الذي يتقدم، ويمتد ، بما يمثله رمز الخصب و الولادة 0 فالحزن العميق في أشكال ووجوه النحات، تحمل ذكرى طوفانات و أزمنة بالغة الشجن و الانكسار إلا أنها لا تنغلق….فالدائرة تتقدم تتحاذى مع الأفق،يتشكل الصراع مجدداً بين كثافة الكتلة، وأتساع المحيط: فالموت لا ينتصر ، و لا الحياة ستأخذ شكل الخلود ، فالنحات ، يستمد مادته وموضوعاته من حضارة وادي الرافدين،حضارة الماء و الخلق الأول، والتجمعات السكانية أمام كون يتكلم بصيغه جعلت التحديق في المجهول قوة امتداد0أن كائناته ، تحافظ على سر لوعتها، وسر كل زوال لايغادر مفهوم التعالي ، لأنها لا تريد- ضمنا- أن تغادر الأمل،ولتجعل من الأثر، في هذا السياق،رمزاً مكثفاً للحضور ، في غيابه المعلن،وغير القابل للسكون.
الخصب: التاريخ مرئياً.
لن تتناثر مًصغرات الفنان- وأن كان قد وزعها عبر المعارض المشتركة،فهي،مثل تماثيل الأسس السومرية ،لا تغادر مفهوم البيت ،والسكن في الداخل،و أقامه جسور مع الفضاء0إنهـــا تتجمع داخل مفهوم الخصب : المرأة / المرآة، لكي تأخذ الأحداث والأشكال والرموز تسلسلها فـــي الوجود0 فالفن يعلن عن الحضور الإنساني ؛ في المأوى: هذا الاستعراض العنيد للــــولادة والموت، فالفنان شد يد التأثر بالمحنة في مغزاها المطلق، وفي مغزاها المشخص معاً0 أنـهـــــا محنة الولادة، بعد انتظار أستغرق تنفيذ مئات المصغرات0فالفنان،هو الأخر، يتـقـــمص دور البنية التوليدية، فالنحت ينتج النحت.. والحلقات تأخذ شكل الدورة؛ ومغزى التفجر الصامت . فالمرآة تزداد التصاقاً بالجانب التوليدي؛أنها تصبح ينبوع التدفق والأمل0هكذا تــــتـــــحـول هواجس الأسطورة الى مرئيات زمنية ملموســة ومبـــاشرة0 فالنسوة اللائي يعيد الإعــلان عـن وجودهن،هــن كائنات في التاريخ، وبالإمكان تسجيل ذلك بالفيديو.نسـوة عمل،في القـرى و المزارع ،يحملن مفهوم الخصب، كتوحد أبدي بين اللامحدود والمشخصات، بين المجهـول والذي صار حركة قابلة للرصد0فالنحات لا يزخرف بل يقشر الخشب،بحـــــثاً عن وطــــن النسغ السري داخل الأشكال، وذلك الأمل الذي يتوازن مع الأسى 0فالبـيت الذي لا جـدران له،هو اللغة،الإشارات،وهو الفن في الأخير0 والبحث عن المعنى،لا ينتظر مزيداً من الشرح والتأويل، لأن النحت يفقد كل صلة له بالأوثان0 انه يغـــــــدو الحركة الخفية و اللامرئية، وقد سكنت الجسد. فالصراع يتجلى،مرة بعد مرة،عبر الحركة والتجمع ،لأن الفنان لا يغادر المتلقي ولا يغادر مفهوم الفن الاجتماع0،ولكنه ،في الوقت نفسه،يمنح التأمل بعداً جمــــالياً:أسئلة خالصة أو هكذا بالإمكان أن تنقلنا الى التجريد أو الاختزال 0 فمّصغرات الفنان تعلن عن رحلتها،مثل كائنات منعم فرات،تجمع الكلام في نشوة الصمت،ومثل كائـــنات خالد الرحال ، لا تغادر فــجر العيد، و العرس،ومثل مخلوقات محـــمد غني حكمت،لا تكف عن صياغة السفر..أنها تجعلنا نلحق بها،خارج المكان..لأن الفضاء يتحرك معها0ولعل المعنى الرمزي لفن النحت،يعلن،ضمناً،عن مغزاه في الوجود : لغة تحمل ما هو ابعد من شكلــها،و أبعد مما تريد ان تقول 0،فثمة،داخل الأشكال ، كما داخل الأشجار، قوة باثة؛ ذلك الشفاف الذي يوحد الأجزاء ويعلن عنها. فالمرئيات هي التاريخ داخل البيت واللامتناهي،و الفنان ضمناً، يتوقف عند علاماتهِ،حتى لا يكاد يغادرها0 فثمة انشـداد الى الشجرة، وكأن الأساطير بعنادها تولد أمام عصر الحداثات ،وعصر المدن الكبرى،حيث الذات تتوحد بالمصائر المجهولة :أنها عودة يلتقط الفنان فيها الفزع البكر،التصادم بين الحواس و القانون ،بين الولادة أو الحرية و بين العتمة والموت.. وماذا بإمكـــان الفن أو اللغة،أن تنقل ان لم تكن مأوى هذا التقاطع.أليست المفارقة لم تـعد ساخرة أو محــــتملة،و إنما في غضب الإلهة بعد خلق البشر أو كما في حروب الإبـــادات الجماعية،حيث العاطفة أو الأخلاق لا تدرج في الخطاب،تغدو المصائر وقد دخلت جحيمها، وأن الفن في هذا الحضور،لا يكف عن إعلان ما هو أبعد وأكثر خفــــــــــاء.
هذهِ المصغرات،كما في نماذج أخرى في النـــحت المعاصر في العــــــراق، لا تــغادر المتحف:الأرض التي نشــــأت عليها النذور الحضارية،نــذور الولادة،والمستـــحيلات:النسوة وهن يحملن أثقال الزمن،عزلة الذات وتوقها للتوحد والفناء0 ففي الفن، كما فـي الشعر العراقي، مدلولات توحدت بالدال : هذا الفضاء الذي صار،هو الأخـر،عــــــيداً، و إقامة ، إلا أن النحت، مثل الأطياف السومرية،لا يسكن بيت الظلام، فالأسطورة تأتي بالابن، ديموزي ،العاشق ،مع كل برق ،ومع كل أمل بالولادة .
* من المجسمات الى السطح
في ممارسته للرسم ، بالألوان أو التخطيط ، تتلاشى الأبعاد . فالنحات لم يعد منشغلا ً بالفضاء ، لأنه راح يعيد رسم مجسماته ببعدين ، تاركا ً الامتداد يتكون عبرهما . لقد صار يشتغل بعين الكاميرا ، مع ترك الأصابع تمارس عملها بضرب من اللعب أو اللهو . ومع ان مفهوم ( المأوى ) ورصد جدل الأشكال : العيون والأفواه وتلاصق الأشخاص والاختزال ، له مميزات النحت ، فان الاحتفاظ بتكنيك الرسم دفع بالنحات الى معالجات تجريبية . كما ان خامات الرسم ، الزيت والألوان المائية وقلم الرصاص ، منحته شخصية المعماري أو البناّء في رسم أبعاد المكان .
ولكنه في هذه التجارب ، لن يتحايل على تدمير عفوية عمل الأصابع ، وعمل العين ، فتركهما يعملان خارج مفهوم التماسك الذي تتطلبه الكتلة النحتية . فثمة فراغات وتفكيكات تتداخل مع أسلوبه في الرسم ، حتى تبدو تجاربه ، بالتكرار ، قد تخلت ان تكون محاكاة لأعماله النحتية .
وتجربة الرسم / النحت المشتركة في التشكيل العراقي المعاصر ، ترجع الى منتصف القرن الماضي ، مع تجارب التحديث والحداثة .. فمن النادر ان يتخلى النحات عن الرسم ، لا بدافع الصعوبات التي يواجهها النحات ، غالبا ً ، في توفير خاماته ، وإنما لأن عادات الرسم وجدت قبولا ً مناسبا ً ، وقد يكون التاريخ الطويل لرسومات المخطوطات أثره، فضلا ً عن بقاء النحت بمعزل عن السكن التقليدي للسكان مغزاه في احتفاظ الرسم بمكانته الخاصة .
بيد ان منذر علي ، لن يعمق درجة الاختلاف بينهما . فإذا كان في أعماله النحتية لا يذكرنا بالرسم ، فان رسوماته ستبقى تحمل صدى موضوعاته النحتية . وإذا كان من الصعب عزل اشتغال المهارة في بلورة الدالات ، في النحت أو في الرسم ، فان الأخير لن يبتعد عن محاكاة المدونات والآثار القديمة ، بما حملته من مرجعيات في معالجة في معالجة أقدم الفنون وأكثرها صلة بعصر يتنازعه مفهوم الفضاء إزاء المكان . وهنا ، مرة ثانية ، يكف الزمن عن وره منحازا ً لعلاقة المكان ـ الجسد ـ المأوى ـ بالفضاء . هذه العلاقة المشتركة بين فنون النحت والرسم تدمج أرضيتها بمضامينها المشتركة : ثمة أصابع مازالت تدوّن محركاتها ، وتفصح عن ضرب من العلاقة بينهما . فالفضاء اللامكان ـ اللامحدود ـ لا يعّرف ، ولا يغدو خاضعا ً للزمن إلا بالحدود التي تشيدها أعمال الأصابع . فالمأوى لا يقف مغايرا ً للسفر ، والزوال في نهاية المطاف ـ بل يحد من أثره دامجا ً ديناميته العدمية بعلامات الموجودات . فالنحت لا يغدو سلاسل تذكارات إلا بصفته علامات مقاومة ، وحنين ملغز لتجمعات لم تفقد أصول نشأتها الخفية . إن منحوتات علي ، أخيرا ً ، تترك نبض عمل أقدم بذور الخلق ، لا تحدق في محيطها وحده ، بل فينا ، كمجسمات ـ وأجساد ـ تضمنت أسباب تمركزها ، كعلاقة كلية بين الهامش ـ المطلق ـ والمركز ـ النحت أو هذا الذي مازال في حدود المأوى ، أو ، ضمنا ً السكن المؤجل |
