قبل ثلاثة وسبعين عاما، وبالتحديد في عام 1935، ظهر الى دنيا الشهرة والضوء فنان فوتوغرافي شاب في الثامنة عشرة من عمره وهو في مرحلة الدراسة الاعدادية وقتذاك لكنه كان موهوبا وخلاقا وفائر الاحاسيس، اذ كان مراد الداغستاني، وهذا اسم الشهرة له، ميالا لاسلوب السرد الواقعي وفي الوقت ذاته منحازا لبيئته الموصلية التي ولد فيها وفتح عينيه عليها عام 1917 ثم مضى فيما بعد نضجه وتنامي وعيه يسجل بعدسته الذكية ادق تفاصيل الحياة فيها ابتداء من عقود الثلاثينيات الباهتة الى عقود الخمسينيات الرومانسية حتى فترة الستينيات الذهبية حيث ارخ لتلك المظاهر والاحوال البدائية وكان يتوقع انها ستمضي الى الزوال والتلاشي وستعد صورها بالماثرة لندرتها وفرادتها الفنية وعلى خلفية هذه الفكرة مضى هذا الفنان بجروداته التصويرية في توثيق المشهدية الضاجة بالاداء والوجود الانساني الذي يعكسه صدق ملامح وسمات الوقت ومختلف انماط العيش في تلك الفترة البعيدة
والذي شد خياله اكثر هو النهر وحياة الصيادين والكسبة والعمال والمزارعين والعاملين في صناعة الطابوق الى جانب البسطاء والمجانين وكتاب العرائض على ابواب المحاكم والموزعين في الدروب والمشاغل الحرفية وما الى ذلك من نماذج مقهورة تحني ظهورها منذ الصباح الباكر وحتى المساء من اجل انتزاع لقمة العيش بكل تلك القوة والعناد الذي لايفتر ومن هذه الطبقات المسحوقة قدم مراد المشهد على سعته وشموليته ليصنع منه قصته الماثورة عن حياة الموصل والموصليين وقد كان يدرك تمام الادراك ان المحلية ستقوده الى الشهرة الواسعة مثلما تقوده الى العالمية وعلى اساس ذلك شارك هذا الفنان باكثر نتاجاته هذه في تسعين معرضا دوليا وطبعت معظم اعماله في الالبومات الخاصة بالتصوير العالمي وقد حصل على العديد من شهادات الدبلوم والتقدير من دول اوربيه واسيوية واشتراكية مثل الصين والمانيا والاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا وفنلندا والمانيا الشرقية محققا في ذلك الرقم القياسي في حصد المداليات الذهبية والجوائز الكبيرة التي عززت مكانته الرفيعة في مجال التصوير الفوتوغرافي الهادف. لم تكن حياة مراد الا حياة معتلة بعد البدايات التي اندفع فيها اندفاعا جنونيا في التعطش لكل شيء اما الباقي منها فقد عاش بنصف رئة نتيجة اصابته بداء السرطان لكنه ومع ذلك تمسك بالعناد والمكابرة وسبل مقاومة المرض وكان غالبا ما يعالج نفسه على حسابه الخاص في مستشفيات لندن وسرعان ما يعود الى مدينة الموصل التي احبها وأعطاها من روحه وقلبه ورؤاه وخيالاته الجامحة لاسيما وانه قد عايش اكثر من سواه ابناءها المكدودين وصور حياتهم لحظة بلحظة برؤية المسرحي والمراقب النبه والحاذق ولم يستثن شيئاً من مفردات المحيط البيئي والمعيشي بل غطاه بما يكفي ويزيد حتى . في عام 1975 وفي صباح من صباحات شهر تموز شاءت الصدف ان التقيه في محله الذي يقع وسط مدينة الموصل وفي اثناء ذلك اللقاء البعيد تحدثنا على ما اذكر بالشان الفوتوغرافي والاساليب المتبعة فيه ومشاهير التصوير في العالم اما مراد فقد راح يحدثني بدهشة واعجاب كبيرين عن شخصية مصور البورتريت العالمي يوسف كارش الذي ولد في قرية ماردين التركية وهاجر في وقت مبكر من حياته ثم عمل في ستوديو كارو بولاية بوسطن الامريكية بمصاحبة عمه الذي كان يقيم ويعمل بالمهنة ذاتها هناك ولما تتلمذ كارش وتعلم طرق واساليب قراءة الشخصية قبل البدء بتصويرها ولما نفض يديه من ذلك تماما انتقل الى كندا واستقل بذاته وافتتح ستوديو خاصاً به في ولاية مونتريال الكندية وراح يستقبل في صالته هذه المشاهير من اعلام الفكر والفلسفة والفن والسياسة وعلم الاجتماع والنفس وابطال السينما العالمية وفناني المسرح والموسيقى كان كارش يلتقي بهم ساعات ليتعرف على لمحات كل شخصية على حده قبل الشروع بتصويرها . هكذا كان مراد يؤكد على قدرات هذا الفوتوغرافي العملاق ويشير بالحرارة ذاتها الى امكاناته الابداعية وملكاته الفنية كما الى شخصيته الفذة وهو الذي نزع السيكار من فم رئيس الوزراء البريطاني ونستن تشرشل عند افتتاحه مبنى البرلمان الكندي لاول مرة قبل سنين طويلة واشتهرت صورته هذه على اوسع نطاق وحقق الشهرة وذيوع الصيت من خلالها فوتوغرافياً جريئاً يحترم عمله ويعتد بشخصيته |