لقد اسهم الصعود الصناعي والأقتصادي الأمريكي الى متغير ثقافي وتشكيلي بشكل خاص .. كانت اساليب الكتابة الحديثة والسينما والعمارة .. والبوب آرت عناوين من بين اشارات كثيرة للتغيير .
وكان معاصرو واصدقاء روبرت روشنبرغ من امثال شوك كلوز وفريد ولسون ورودي ليشن شتاين وجاكسون بولوك واندي واروول وجاسبر جونز ينشغلون بفكرة التغيير ايضا .. يقول الناقد الفرنسي في جريدة اللوموند هاري بلليت : ربما تفاعل الجينات الألمانية التي يمثلها والد روبرت المهاجر الألماني النادر الذي تزوج امرأة من هنود الشيروكي قد انجب روبرت بجينات تفاعل حضارتين الجرمانية والهندية الأمريكية الشمالية .. وهذه فرضيتي الشخصية لكن روشنبيرغ فنان متغير مخرب .. ومعمار مقيم لحضارة تشكيلية جديدة .
تجنب روشنبرج اية اسلوبية اطلع عليها فهو لايحب اية محاكاة ولذلك ابتكر اسلوبية خاصة اسست للهوية الأمريكية في الفن .. حيث تتفاعل حضارات شتى لخلق حضارة العالم الجديد كما يقول .. ويحق لروشنبيرغ ان يكون في معجم رواد الحضارة الأمريكية كما في اشارة ادارة المؤسسة بأعتباره رائدا ,, يقارن بالشاعر والت وايتمان الذي اسس في الثمانينيات من القرن التاسع عشر رؤية شعرية وثقافية انعكست على الرؤية الشعرية في كل مكان .. وكان السياب رائد التجديد في الشعر العراقي يقرأ وايتمات ويتامل شأن القصيدة العربية في المستقبل منذ الأربعينات في القرن الماضي .
كل شيء يخلق فنا
في بورت آرثر في تكساس ولد روشنبيرج عام 1925 وهرب في اول الأمر من دروس التربية الدينية لأنها تحرم الرقص ..حين انهى دراسته في جامعة تكساس – وكان قد حاول من قبل دراسة الصيدلة كما رافقه حلم ان يصبح وزيرا - لكن خدمته في البحرية الامريكية قادته الى اشارات في معرفته بالتغيير ومتطلبات موهبته في الرسم والنحت , في 1945 درس في كنساس الرسم وتغيرت احواله بالكامل حتى التقى في باريس عام 1947 الطالبة الأمريكية سوزان ويل الشاهدة على كل تحولات روشنبيرغ وتزوجا عام 1950 ليبدأ مشروعه المونوغرامي في تمثال العنزة الشهير الذي يلخص نظريته في العمل الفني التي تقوم على اساس ان لايوجد شيء غير قابل لصناعة فن .. وان كل مادة تحتوي على الجمال .. حتى ان صداقته مع الفنان جاسبر جونز قد تحولت الى عداء مفرط حيث صنف روشنبيرغ على انه فنان المواد الفنية الحديثة التي تصنع جمالا من خلال الربط والتركيب والأنشاء ..فيما بقي جونز يعد بين صفوف الفنانين التقليديين الذين لايجرؤن على تجاوز الفهم التقليدي المدرسي لتركيب المادة الفنية ,
كانت الموسيقى من هم المواد التي تشتغل ضمن منظومه روشنبيرغ التركيبية وقد صنع مع المؤلف الموسيقي جون كيج والراقص المعاصر والمصمم الكاريوغرافي ميرس كننغهام مادة تشكيلية حية وسط خامات عدة كان يستعملها روشنبيرغ ضمن تركيبيته الغرائبية لصناعة حداثة مدهشة دائما .. لقد اشتغل على تأصيل العلاقة بين الرسم والنحت .. وبين التصوير والتشكيل كما فعل مع صديقه شوك كلوز – والغريب ان كليهما اليوم يعاني من الشلل على الكرسي المتحرك لكنهما يعملان معا كل يوم _ و في باريس كان ينشغل بمتابعة دراسة الفن, ثم عاد و التحق بكلية (بلاك ماونتن) في نورث كارولينا اثر عودته لتكريس فكرة الدأب والأختبار لتكريس اسلوبيته ورؤيته .. وحداثته القائمة على التركيب والربط والكولاج بين مواد متناقضة .., وكان واضحاً ان روشنبرغ منذ البداية قد تأثر بتجربة الباوهاوس التي كرست مفهوما كاسرا لكل ثبات منذ بداية العشرينيات وقد اهتم منذ البداة بفكرة الباوهاوس عن تركيبة الرؤى الفنية مع مبتكرات الصناعة الحديثة .. وفي نيويورك التي اختار ان يستقر فيها ويطلق من مرسمه اتجاه الفني اسس حركة فنية شاملة تضم كل ابتكارات الموسيقى والعمارة والرقص والتشكيل والنحت .
الفن بأعتبارة سيرة ..
اهتم روشنبرغ بسيرته الشخصية لابصفتها سيرة شخص بل بصفتها سيرة لجيل وعصر ورؤية.. واختار ان يؤسس لألغاء المسافة بين الفن والحياة ولم يكن هذا الأنشغال بعيداً عن الرؤية التي كانت تشغل الشاعر والت وايتمان ، فكرة ان يكون الشعر يوميا وحياتيا وعميقا تلك الفكرة التي طرحها الشاعر في التقريب بين الحياة و الشعر .. وبين متطلبات الحياة عموما حتى ليغدو فن الشعر عنصرا من عناصر البناء الحياتي .. وهكذا انشغل روشنبيرغ بسيرة الفن بأعتباره بعدا حياتيا ..ومن هنا جاء التنويع الباهر في تجربته في البوب آرت, وفي تجاربه التعبيرية التجريدة واعمال ومجسمات مركبة واعمال حفر وطباعة السكرين على اقمشة متنوعه , وتشكيلات حرة من المواد الاستهلاكية اليومية كالاقمشة والزجاج وقصاصات الصحف والصور الضوئية والأعلانات , وكان من اهم اعماله هذه عنزته المونوغرفية لتي تمثلك المزيج الباهر من المواد الصناعية والفنية الغريبة في ذلك العقد الخمسيني من القرن الماضي ..
ويقول الناقد هاري بلليت ( لقد استخدم في اعماله المركبة المواد ذاتها التي استخدمها الدادائيون والسرياليون واضاف اليها لمساته الخاصة, ومع غرابة هذا العمل المونوغرافيكي فانه يأخذ اهميته من ايحائه بالقيود المماثلة التي تكتسح حركة البشر, ويمكن ان نكتشف ان أكثر المؤثرات في أعمال روشنبرغ جاءت من دوشامب الفنان الدادائي الذي يستخدم مواد جاهزة كأطارالعربة او الدراجة وسيراميك المرافق الصحية, والملابس الداخلية والخشب وفضلات معامل اللحوم ومعامل الصناعات البلاستيكية )... والى جانب العديد من اعمال روشنبيرغ الشاخصة الى اليوم تشكل العنزة بأبعادها الثلاثة من اهم التجارب التشكيلية في النحت والرسم ومزاوجة المواد المختلفة .. حيث ينتقل هذا العمل بحمايات خاصة الى عواصم العالم وحين يعود الى متحف الفن الحديث في ستوكهولم يتحول الى مرجع معرفي للفنانين والطلاب .. ومجموعات الأطفال من طلاب المدارس السويدية .. كما يظل مؤشرا على عبقرية فنان فذ مايزال يقاوم رغم الكبر والمرض مؤكدا ان الحداثة هي عنوان كل بقاء ..