من بين الأعمال الفنية التي أتذكرها عن محمود صبري أحببت عملا بسيطا جدا ما زلت لحد الآن مترددا في الحكم على تنظيمه العام . فأنا لست متأكدا إن كان الفنان اراد به تخطيطات منفصلة تمثل خمس شخصيات فقيرة ذات اصول ريفية ، أو أن الفنان تعمد ان يجمع هذه الشخصيات على سطح واحد فارغ وغير مكيف من حيث النسب مع غياب اية علامة تشير الى انهم يشكلون وحدة ، عائلة على سبيل المثال ، أو تشير الى مكان محدد تاركا لنا الاستنتاج النهائي . لا وضعية روائية محددة لهذا العمل ،لا مقاصد فنية واضحة لمثل هذا الانفصال ، بيد انني أحببته لوجود كفاية تعبيرية لكل شخصية على حدة . لقد أحببت هذا الانفصال الذي بفيد فنيا معنى التحديد الاضافي ، وأعتقد إن محمود صبري التقى بهذه الشخصيات في الكواليس الخلفية للشوارع بين جامعي القمامة ومخلفات الحدائق ، ولربما أجّل اطلاقهم في مشهد محدد يربطهم معا . لا تخطئ العين حقيقة هذه الشخصيات ، لا نخطئ كذلك إذا ما رددناها الى شوارع بغداد هائمة في ظهريات جهنمية . أحب الآن أن أعزز الصورة بالجمع ما بينها في خيالي كعائلة : أم نشطة كادحة ملفوفة الجسد ، ابنتها ، ابناء ابنتها الثلاثة او لعلهم ابناء ولدها البكر . في الستينيات كنت التقي بهذه الشخصيات ، مع التعابير نفسها ، في طريقي الى الميزرة في خلف السدة في زياراتي الدائمة لأحد أصدقائي الساكنين هناك . لكنني قطعا لم اجد اقدامهم بالهيئة التي صورها محمود صبري . من المؤكد انهم حفاة لكن التحفي لا يجعل الاقدام تتورم على هذا النحو الغريب . إن هذه الاستطالة التعبيرية ، هذا التشويه ، هو ضرب من اسقاط ذهني : تتورم اقدامنا من المشي حفاة وتتشوه . لعل هذا الفراغ الابيض يخفي شارعا تلهبه الشمس واسفلتا يتبخر ورصيفا تمشي بمحاذاته ظلال شاحبة!
هل يعرف الفنان أن هذه العائلة لا زالت تجوب في الشوارع؟ لم تتغير مدننا ، بل العكس باتت متريفة اكثر من ذي قبل . بتكييف الصورة الى الزمن الحالي سنجدها تشير الى اكثر من اختلاف في الزمن والمزاج والتعاطف . إنها العائلة نفسها ، وقد باتت اكثر وقاحة ، فالابناء يلبسون بنطلونات الجينز ، والبنت ترتدي رداءً ملونا يظهر براقا تحت عباءتها المفتوحة . إن مراقبا من الطبقة الوسطى البغدادية من مثل محمود صبري قد يشعر اليوم بالتهديد والخوف لرؤية هؤلاء الكادحين . لقد تغيرت العواطف والتوقعات كما تغيرت علاقات القوى السياسة.
أرجو أن لا اكون مخطئا بوجود عمل مماثل للفنان يمثل نساءً ريفيات بملابس سود الى جانب نبات الصبير . إن محمود صبري يجيد التآليف الخيالية ذات التنظيم التعبيري ، وشخصياته الريفية تبدو رشيقة ملمومة الى الداخل ، والفراغ المحيط غير المشغول يعزز الظهور المنفصل والمكتفي لتلك الاجساد المتلفعة بالسواد . بيد أن هذا التنظيم يختلف تماما عما نجده في رسومه عن العاهرات فهي مشوشة جدا بسبب مبالغة الفنان باثارة الاضطراب في الخطوط والتعابير الشخصية. وأجدني قريبا من الاستنتاج الآتي : اعتاد الفنان الخروج عن التحليل الواقعي للمكان عن طريق حالة عاطفية تشوش عليه حتى لو اضطره الامر الى تخريبه بالالوان وهو المقل فيها وبالخطوط التي يجعلها تتطاير الى الخارج مع انه يجيد لملمتها. إن تعبيرية محمود صبري خاضعة الى حساسيته الشخصية لنوع من المواضيع الاجتماعية والسياسية.
إن القصة الخمسينية لم تخف تعاطفها مع البغايا واظهار الفكر السياسي والاجتماعي التقدمي بتمثيل بؤسهن مع جمهرة بؤساء المقاهي والمحلات الشعبية – والفنان محمود صبري وهو نظيرهم في الرسم تناول هذا الموضوع بما لا ادري إن كان تعاطفا او خوفا او انفعالا وجد له اسلوبا غامضا!
إن النظير التعبيري للشخصيات الريفية التي رسمها محمود صبري على مستوى الرسم نجدها عند جواد سليم ، كما في بائع الشتلات ، والمرأة المكافحة التي ترفع ماكنة خياطة على رأسها وتحمل بيدها ديكا. الاختزالات نفسها الا ان محمود صبري يظهر حسا بالكتلة مع تجهم التعبير العام ، في حين ان جوادا يمعن النظر ، بهذين المثالين في الاقل ، بالتعبير المباشر للوجه الخاضع نفسيا للحظة المشهد المديني الرائقة.
ثورة الجزائر
تعد لوحة ثورة الجزائر من اشهر لوحات محمود صبري . إنها الجورنيكا العربية عن حق ، وهي تأليف خيالي لا يخلو من تعقيد شكلي وانشائي بسبب الطاقة الانفعالية التي ودّعها الفنان فيها . وعلى عكس جورنيكا بيكاسو المتألفة من وحدات عديدة مختلفة من حيث القيمة والاشكال يشكل الشخوص محور عمل ثورة الجزائر وبؤرته . هؤلاء الشخوص يستخدمون اجسادهم ، ولاسيما سيقانهم وأياديهم ورؤوسهم ، في بث الحركة باتجاهات مختلفة كان يمكن ان يفلت زمامها لو ان الفنان لم يجمعها كلها في موازنة داينميكية داخل اطار عام شبه هرمي . يمكن عد الاجساد هنا خطوط اتجاهات قوى داينميكية تثير معنى المقاومة ، كما تمثل اوضاعا انفعالية من السهل معرفة دلالاتها في اطار التكريس السياسي . إن القوى النافرة الى الخارج والقوى المتجهة الى الداخل يتعادلان من الناحية البصرية . ذلكم بالتأكيد صورة مثالية للثورة ، حيث يضمن الفنان التبئير والاستقرار اللازمين على عكس ما يجري في التاريخ من انفلات للقوى .
بيد ان هذا لا يكفي لجعل العمل متوازنا ، فلو ابقى الفنان على هذه الاشكال المتضاربة المنفعلة وحدها لبدت الصورة كأنها تمثل حفلا شعائريا لا يخلو من وحشية ، أو عرضا مبالغ فيه من عروض الحركة والاوضاع الشاذة . لقد احتاج الى دعامات واقعية من الصنف الساكن الذي يصلح الى ان يكون اطار استناد مثلما يصلح لوظائف فرعية اخرى . لقد احتاج شيئا يصف فيه الجزائر كسجن أو حتى مكانا تنفتح فوقه سماء بقمر وترتفع فوق اسواره شجرة. من هنا استخدم الخلفية كإطار يمسك مجموع العمل بصرف النظر عن دلالاته الخارجية . لقد احتاج على اية حال الى عمق تمثيلي مشغول ، والى اطار استناد واقعي تتم داخله حفلات التعذيب او احتفالات المناضلين واحتجاجاتهم وعرض معاناتهم .
في عام 1961 او العام الذي تلاه زار بن بله العراق واستقبله الشيوعيون والبعثيون بمظاهرات حاشدة ، وكنت موجودا هناك اتدافع لرؤيته . في ما بعد ، بعد ان سقط بن بله قرأت في مذكراته يصف كيف استقبلته القوى القومية المعارضة للدكتاتور بمئات الالوف وكيف ان الدكتاتور قاسم ( كذا ) . لم ير بن بله غير القوميين وكانوا قلة على الرغم من انهم هيأوا حشدا كبيرا وتجاهل الأكثرية براياتها واعلامها ولافتاتها وشتم من كان يمد الجزائر بالسلاح . هذا لا علاقة له بثورة الجزائر التي صورها محمود صبري ، بل بالثورة التي خانها بن بله وغيره . دائما يخرجون من الصور ويطلقون علينا النار ويكذبون . علينا ان نرسم صورا لغائب . هذا ما فعله اخيرا محمود صبري من دون ما حاجة الى المرور بتجربة كتجربتي : واقعية الكم . لقد اباد الشخصيات تماما .
الشهداء
في الستينيات ظهر في الفن التشكيلي العراقي شاخص انساني مجرد مثّل الانسان في محنه الوجودية ، في السبعينيات شيّع هذا الشاخص تحت اسم شهيد . هذا التحول أملته السياسة : على الفرد الاعزل ان يموت أو يلتزم. هذا ما قررته السلطة والتقدميون المتفائلون بسبب لوثة جنون . الفنانون اجترحوا تأويلا مقترنا بصعود حركة الفداء الفلسطيني : شهداء . إنهم أفضل من موتى (اليس كذلك؟).
محمود صبري عاصر شهداء اقدم - شهداء باعتراف الجميع من دونما حاجة الى مطهر حزبي ينتظر فيه الاموات منحهم شهادة حسن السلوك ليدخلوا الى جنان الخلد. إنه أفضل فنان اعطى لقضية الشهادة صورا مقنعة ، وببساطة لأنه لم يجعل الشهداء يؤدون أدوارا لا تعود لهم ، كأن يرفعوا قبضاتهم ، أو راحات أكفهم ، أو يخروا صرعى في فضاء فني متجهم . إنهم اموات لا يظهرون في صورة . الأحياء وحدهم يظهرون في الصور بوصفهم مودعين ومشيعين وورثة ومهيجي خواطر . الموت ليس مشهدا جميلا على اية حال ، وفي اللحظة التي نرفعه الى مستوى الشهادة سيظهر وقاره المتستر بالاحياء ، والاحياء كما نعرف ، الأحياء الذين تهيجهم السياسة وتقربهم من خطوط القتل ، كثيرا ما يحولون الموت العنيف السامي الى لحظة اجتماعية.
أذكر لمحمود صبري عملين عن الشهادة يحتفظان بنفس التنظيم العام : كتلة قوية وقورة من الشخوص تظهر متوجهة من اليمين الى اليسار تحمل نعشا ،وعلى اليسار مشهد او عدة مشاهد متحركة . العمل الأول يبدو أكثر اختزالية سواء بالنسبة للأشخاص الذين يحملون النعش على اليمين واولئك المودعون الذين يقدمون عرض تشييع حر تفلت منه حركات التلويح بالأذرع والأجساد المنحنية او الناهضة على اليسار. أظن ان العمل الثاني مستلهم من تشييع شهداء الوثبات الطلابية نظرا لملابس حاملي النعش الغربية ، في حين ظهر الجزء الآخر على اليسار مختلفا تماما من حيث الموضوع والأشكال ، فهو يتكون من عدد من المشاهد عن الامهات والاطفال ، وبهذا المعنى فهو يحمل مضامين عاطفية ورمزية تعوض عن الفقدان والموت.
بهذين المثالين يقدم الفنان ضربا من التوازن بين الساكن والمتحرك ، الرصين الوقور والمتحرك العاطفي . لقد وجدنا تعادلا داخليا بين قوى الخروج والدخول في لوحة ثورة الجزائر ، أما في هذين العملين فإن المعادلة بين القوى تأخذ طابعا توازنيا رمزيا قائما على قسمة اللوح التصويري الى قسمين : يسار ويمين . يظلل الاموات الوقار والخفر . إنهم محمولون ، خرجوا من الصراع ، أما الأحياء فيتفكرون بالفواجع ويستعدون لما هو آت .
الخروج الكبير
قبل وصوله لبلده في بداية السبعينيات وصل كتيبه عن واقعية الكم الذي قدمت عرضا له في صفحة آفاق بجريدة الجمهورية . كان لي اهتمام في معرفيات المايكروفيزياء جاء عبر باشلار ، واعترف إنني تلقيته من ابواب اديولوجية من حيث التعريف : نقد الحتميات! كان هذا تحول في الفكر السياسي والاجتماعي قربني جدا من تجربة واقعية الكم النظرية المشروحة بقلم محمود صبري المنضبط والمدهش في دقته والذي صحح لي بعض أخطاء الفهم . بيد انني لم استطع قبول النتيجة الفنية لهذه التجربة . في ما بعد وصفت واقعية الكم في عمود صحفي بأنها محايثة متعالمة ، فهي تستخدم مقتربا علميا يجد شرحه وتطبيقاته في حقل محدد – في - حقل آخر مختلف عنه تماما .
والحال إن واقعية الكم بدت للوسط الفني العراقي الغنائي مثل فقاعة اعلامية ، مثل عرض بمعرفيات جادة ومتماسكة انتهت بنتيجة فنية فقيرة. عندما رجع محمود صبري الى ما كان يعرف بتشيكوسلوفاكيا غادرت معه واقعية الكم ولم يتبق منها غير لوحتين ودعتا في المتحف الفني اختفتا بعد الاحتلال الامريكي.
في نهاية عام 2002 كان شاكر حسن مريضا ، وحاولت الكتابة عنه وأنا أشعر بأننا نتجه الى الحرب . تذكرت صياغته لبيانه الثاني في بداية السبعينيات الذي سماه بالتأمل الواقعي . كنت ادرك ان الفنان اجرى تحليلا لمقتربه الاصلي المشروح في بيانه التأملي الأول واراد الخروج من مأزق ايقوني ذهني في الرسم . كان التأمل الواقعي هو الاسم الآخر لما بعد التجريد. كان شاكر آنذاك يتعلم ان يجمع امثلة على واقعيته التي ينكرها عليه الوسط الفني فذكر محمود صبري الذي كان قد خرج من الكون الكبير الى الكون الصغير . وأية اقترانات لدينا هنا ، فشاكر الذي يذهب الى ماضي الأشياء والأشكال ، أي من الحجم الى السطح الى الخط الى النقطة ومن ثم الحجيرة ، سيفسر تجربة الفن اللاشكلي بالانسحاب الى الداخل ، الى ماض اصلي ، إلى سدم من حجيرات وخلايا ورشائم ، لعل محمود صبري سبقه اليها من دون ان يستخدم المعارج الروحية بل المختبر والمقترب النظري لفيزياء الكم .
بعد انقضاء زمن طويل ، بينما كان كوننا الاجتماعي والثقافي العراقي على وشك الاحتراق ، كتبت عن محمود صبري عن طريق الكتابة عن شاكر حسن آل سعيد ، فالاثنان خلفا وراءهما مجتمع الرموز الاجتماعية المحلية الذي شكل لب اهتماماتهما المعرفية والبصرية في رحلة هرب الى عوالم لا ترى في العين المجردة بل تعرف عن طريق التجارب الحدسية والتأمل كما في حالة شاكر حسن ، والمختبر العلمي كما في حالة محمود صبري .
الإثنان اجترحا ما دعوته بخط هرب مبتعدين بوساطته عن مجتمع الرموز الاجتماعي العراقي ودلالاته السياسية والفكرية . الاثنان قطعا سيرة اسلوبية في التشخيصية التعبيرية متوصلين الى نتيجة معادية للرسم وفكرة الاسلوب ، والاثنان آمنا بمفهوم عن العمليات الداخلية بتسميات مختلفة ونتائج فنية غاية في الاختلاف . الاثنان عملا في نسقين مختلفين من الاجراءات والتعبير العاطفي والشكلي والخبرة النفسية . الا ان لقاءاتهما واختلافاتهما يشدهما الاهتمام العالي بمعرفة ما يجري حولنا من دون ان نراه او نشعر به ، وفي الوقت نفسه لا بد من القبض عليه في تمثيل فني يستند الى تجربة جمالية أو مفهوم ما .
في الستينيات بدأ الفنانون ينسحبون الى الداخل ، الى الخبرة الداخلية ، ولست ادري تماما اين نضع الانسحاب نحو كوسمولوجيا تصف الأكوان الصغيرة والعمليات التي لا ترى؟ لعل ثمة تحليل سيكولوجي يفسر هذا الانسحاب . يفسر من دون براهين ، مثل لحظة تنوير ، بلطف وبتسامح كامل ، لماذا تخلى فنانان تعبيريان تقدميان عن الواقع الماثل لمصلحة جريان داخلي لا يرى؟
لو اغامر بفتح هذا السؤال على الحياة لتحدثت عن حياتي أنا وعن اسبابي أنا في البحث عن مهرب الى الحرية . أتمنى على محمود صبري الذي لا نعرف الكثير عنه ان يساعدنا في الاقتراب منه بلسانه . إنني متأخر عليه وأتمنى ان لا يتأخر على نفسه.
suhailsami2000@yahoo.com