تشكل الذاكرة لدى المصور فؤاد شاكر المحور الرئيس الذي يصب فيه اهتماماته الابداعية، فهو اثناء حياته التي قضاها في اصطياد اللحظات الخاصة، واللقطات النادرة التي لا تتكرر، للمدينة وسكانها على تنوعهم، عمالاً، فقراء، مجانين، اطفالاً، نساء، يحاول
ان يلملم ذاكرة جمعية، ينتمي جزء منها الى الحياة اليومية، والقسم الاخر الى زمن سحري غائب، يتابعه فؤاد، طول رحلته المضنية والشيقة.
نشأ في اعماق المدينة، يلعب في أزقتها مع الصبيان، يتشممها في اسواق الصدرية، يتنقل مع عربة (اللبلبي) الذي تطبخه امه ليلاً، ليتجول في ازقة باب الشيخ نهاراً.
عرف المدينة من داخلها، فك اسرارها مبكرا، قرأ اسطورتها وهو يتفرس في ابنيتها ووجوه اناسها، وحين كبر فؤاد شاكر، مع تجربته وهوايته، صنع من وجوه الناس، اسطورة اخرى للمدينة، تنتمي الى مئات الاساطير القديمة التي تحفظها بغداد عن ظهر قلب.
:(ليست بغداد مكان، او مجموعة شوارع وأبنية، انها خليط خيالي من الناس والهواء الحار والتراب الذي يهب فوق بساتين النخيل، رائحة دجلة عند مغيب الشمس، اغاني يوسف عمر وسليمة مراد، صيحات البائعين المتجولين). لا تعبر صور فؤاد شاكر عن اصحابها فقط، فهو حين يقدم لك وجها لا مرأة، او لمجموعة من الشناشيل القديمة الآيلة للسقوط، انما يدعوك الى رواية طويلة، يغريك بقراءتها، بلغة سهلة، يسهم في تيسيرها امامك، فيعطيك مفاتيحها التي يجيد صناعتها، وجوه الاطفال المرحة، غنج النساء المتلفعات بالغواية، صلابة الرجال وقوة نظراتهم. يفرش شاكر، امامك مفردات متناثرة متناقضة، ليجمعها في لحظة يختارها، مثل ساحر، ينقلك الى عالم خيالي. وحين جُنت المدينة، وحطم اناسها ابوابها، وعبثوا بممتلكاتها وأحرقوها. خرج فؤاد شاكر، بكاميرته يصور الخراب والجنون والعبث الدامي.
:(هناك لحظات تاريخية ينقلب هذا الانسان الوديع، البريء، الفقير، الى وحش كاسر وفي حركة انفلات، يعبر عن خساراته بالنهب والتدمير. احاول من خلال كاميرتي، اشعاره بالخجل، والعودة الى انسانيته عبر الذاكرة). هناك كم هائل من المعالم العراقية التي صورها، فؤاد شاكر، اثناء حياته الغنية، الكثير منها اختفى وعفا عليها الزمن، ولم يبق الا في صورة وذاكرة الناس، يعرضها فؤاد امامهم ليقول لهم هذا انتاجكم هذه ابنيتكم، مقاهيكم، مساجدكم، كل هذا هو انتم.: (الانسان العراقي مرتبط بالمكان، يتغنى بالمقهى الذي جلس فيه، يتذكر المدرسة التي درس فيها، الاسواق المحلات الازقة التي يرتادها، اراهن دائما، على تذكيره بالصورة المشرقة الناصعة، من حياتنا السابقة، كي يعود الى زمن البراءة).
وحين يتسرب الأمل الى الناس، يحس فؤاد شاكر، قبل الاخرين بذلك عبر الوجوه. :(في الصباح الباكر، اتابع الانفراج يرتسم في وجوه المرأة وهي تشتري الخبز لأبنائها، على وجه الطلبة الصغار، وهم يركضون مطمئنين، صوب مدارسهم، الشوارع تبدو نظيفة).
في تسعينيات القرن الماضي، حين ضاقت الحياة في العراق، غادرا فؤاد شاكر البلد، ذاهبا الى اميركا، قضى هناك 4 سنوات، وحصل على الاقامة، ولكنه فاجأ الجميع بعودته مرة اخرى الى العراق.
:(لم اجد هناك مأوى روحياً، رغم نجاحي العملي، حاولت ان امارس مهنتي في التصوير، وجدت ان كل شيء هادئ ومستقر، الصورة هناك بدون طعم، اشجار جميلة، بحيرات، جبال، ولكن دون معنى، اكتشفت اني مكون من مجموعة كبيرة من الذكريات، وأني بدون مدينتي، بكل بؤسها وجمالها الخاص، يتيم، وقررت العودة الى فردوسي العراق). يستعد فؤاد شاكر منذ سنة لإقامة معرض يضم اكثر من 60 لوحة تغطي فترة الخمس سنوات العصيبة التي مر بها البلد. :(صورت الدمار الذي لحق بالمدينة، وصور الاعمار الذي قام به الناس، الوجوه الحزينة التي فقدت الاعزاء، والوجوه الصلبة المنتصرة على الهزيمة، في معرض الذي انوي اقامته، قصة الانسان العراقي وتمسكه بقيمه الكريمة ومدينته وحضارته التي دافع عنها).
الفنان الفوتوغرافي، فؤاد شاكر، بتناقضاته، بعنفه، ورقته، بصراخه الحاد، بغنائه الجميل، بما يحمل من قصص كثيرة، خاضها ومارسها اثناء حياته الشقية، التعسة والسعيدة في آن واحد. يعتبر من شواهد المدينة العراقية، بكل تحولاتها وحضارتها، امين على اسرارها، راوية لأساطيرها السحرية العريقة، واحد من (قصخونات) مقاهي بغداد، من خلال عدسته اللماحة الوفية.
|