أعدت اليونسكو في عام 2003 مسودة اتفاقية التنوع الثقافي. وفي ربيع (2004) اقترحت لجنة من الخبراء تغيير عنوانها إلى(اتفاقية حماية وتنوع المحتويات الثقافية والتغييرات الفنية) وبرغم ذلك فإنها بقيت دون فاعلية وخارج سطوة التكتلات أو الشركات الثقافية الكبرى المهيمنة على السوق الثقافي الفني العالمي بمراكزه الأكثر سطوة في كل من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان. من خلال فاعلية مضاربات أسواقها الاحتكارية. وبمساعدة ومساندة اتفاقيات التجارة العالمية الحرة, يتم التحكم(تعسفا) بالذائقة الفنية التي تدعى عالمية. وكذلك من خلال صناعتها للتيمة والنجم وإعادة صياغات المنتج الثقافي الوطني والمغاير بما يساير معاييرها النفعية, ولا تعدم وجود بدائل ذائقيه باستمرار لتشغيل ماكينتها المالية بما تملكه من كادر مدرب وسطوة معلوماتية وهيمنة إعلامية عولمية،
لم يكن هذا الأمر وهما إذا ما عرفنا بان نحو خمس شركات كبرى هي التي تتخذ (80%) من القرارات المتعلقة بصناعة وتوزيع الأعمال الفنية (الرسوم، التماثيل، التصاميم، الصور والأعمال الإعلانية)، وهذه الشركات ونظراؤها من المستوى الأقل التي تستوطن مدنا عالمية معينة هي التي تتحكم في خارطة سوق التشكيل العالمية، هذا يعني أنها لا تستغني عن العناصر الثقافية المشتركة لكنها بالتأكيد توظفها ضمن سلوكيتها الاقتصادية مقصية في نفس الوقت كل العوامل التي تعيق إمكانية تسطيحها من المحتوى الثقافي الجاد أو السياسي الشائك وساعية غالبا للحفاظ على وهج وجداني ساذج لكنه مبهر، غالباً ما يمكن عرضه كبضاعة عامة مقبولة من الجميع صافية الربح. السلوك الاقتصادي هو الذي يظل محور مناقشتنا هذه.ليس سيرة الفنان أو سيرة أو مستوى عمله الإبداعي. بما أن هذا السلوك مغاير للقيمة الفعلية للعمل الفني ومسايرا للمسالك الربحية الصرفة بكل حيلها وخدعها والتي منها: حجز العمل الفني(التشكيلي) بعد الاستحواذ عليه من قبل أشهر القاعات وانتظار الوقت اللازم والمصنع لتصريفه بضاعة قابلة للمزايدة. اعتماد شهرة الصورة وحدثها لا قيمتها الفعلية ضمن سلوك مخادع متبادل للنخبة المالية. استحداث موجة اهتمامات جديدة بثقافة صورية مختلفة كانت مركونة قبل ذلك وإعطاؤها زخما سعرياً فائقا. احتكار قاعات معينة مع فروعها المنتشرة في عدة بلدان لأسماء فنية منتقاة ضمن الذائقة الجديدة أو المعادة. اعتماد الوسطاء الثقافيين(الأمناء أو السماسرة) لمحور المقتنين والسلطة المحلية الثقافية و العروض الخاصة والعامة وصعوبة اختراق محيطهم. ثم دور توظيف الرساميل البنكية وحتى الغسيل المافيوي مؤخرا في السوق التشكيلي والفني عموما. ودور المزادات وخفاياها وعرابيها.كل ذلك ساهم في تفكيك دخل عموم التشكيليين أو تقليله لمستويات دنيا لصالح خطوط التسويق,سعيا لإقصائهم أو تهميشهم برغم كفاءة العديد من تجاربهم. العمل الفني هو ملك للجميع كونه قيمة ثقافية مستخلصة من الموروث المحلي والعالمي تتوالد وتتشعب جزئياته على مر الزمن اندماجا وتفكيكا أو إعادة صياغة. وبما انه ارث ثقافي عام فهو مشاع للكل واحتكاره أو حجزه يشكل مصدا لحراكه المستمر. وما قوانين احتكاره الخاصة والعامة إلا انتهاكا لقيمته الاجتماعية هذه. فان تسلم الفنان أو القيمين على أعماله قيمة نتاجه المادية فليس من المعقول أن يشرع لاحتكار هذه القيمة لسنوات حياته كلها أو لورثته بعد موته أو للمؤسسة المحتكرة لنشاطه(وغالبا ما تكون المؤسسة). فهو لم يخترع نتاجه بشكل ذاتي خارق بل بما وفرته له تجارب الآخرين والسابقين من مساحة نظر وتأثر. وان يكن أضاف تفصيلا أو غير محتوى شكليا معينا فهو وفي كل الأحوال اشتغل بمعطيات ما التقطته حواسه وذهنه من عناصر تشكيلية محيطية لا مفر من سطوتها على نتاجه. وكل النتاج العالمي الثقافي والتشكيلي منه لا يتعدى الحذف أو الإضافة بحدود إمكانية الفنان التعبيرية والأدائية من مجمل الموروث والجاهز الفني.سياسة الاحتكار هذه لا تكون فاعلة إلا في خدمة دائرة نخب قليلة جدا من التشكيليين من اجل المحافظة على ارتفاع سعر نتاجهم. هذا هو ما حاصل في عموم السياسة الثقافية الاحتكارية لهذه الشركات أو الكارتلات أو المؤسسات الربحية الفئوية, لتبقى المستفيد الأول من كل ذلك بوثائقها الاحتكارية( حقوق الطبع والنشر والتوزيع والعرض) وما تبقى من فتات نصيب الفنان. المساحة الجغرافية للاحتكار الثقافي العالمي أذا صحت التسمية لا تتجاوز الخمسة عشر في المئة من مساحة العالم محصورة في محور الدول الثرية المتقدمة والمتبقي من هذه النسبة لا يفلت بشكل مطلق من سطوتها أو ابتزازها المالي الموثق باتفاقيات التجارة الحرة.ويبقى غالبية الفنانين في كل أنحاء العالم تحت هيمنة سطوة دهاقين القرار الثقافي والفني بنمطيته وبتسعيرته وبشباك إعلامياته، وان كان المردود المادي المناسب من نصيب الفنانين الإعلاميين وبضمتهم المصورين ومعدي البرامج الرقمية لكونهم يشتغلون ضمن كادر مؤسساتي قرابة (90%) إلى (99%) من الفنانين الفرديين في العالم(حسب توزيعهم الجغرافي) ومعظمهم فنانون تشكيليون يتم إقصاؤهم عن السوق الفني ليبقوا دون مورد مادي يضمن لهم عيشا ولو في حدود متواضع. لذلك نجد غالبيتهم يمتهنون مهنا أخرى توفر لهم دخلا ليمكنهم بطريقة ما من مواصلة حياتهم. عودة على النتاج الثقافي التشكيلي المختلط، فالملاحظ في عموم أوربا مثلا حيث أقيم إقصاء تجارب التشكيليين المهاجرين المستوطنين بحجج واهية، فبالوقت الذي يروج لدمقرطة الحريات ومنها الثقافية المتنوعة، يتم وبشكل مضمر التجاوز على هذا النهج أو التصرف الانفتاحي على ثقافات العوالم المختلفة، أي يبقى الهاجس الوطني(القومي) واضحا برغم ما يحيط به من هالة التسامح، وبما أن معظم المجتمعات الحديثة إن لم تكن كلها هي مجتمعات مختلطة، فان الغبن أو التهميش لا يزال سارياً ولو في بعض البلدان بنسبة اقل، لكن الضرر المادي يبقى ملاحقا هذه الفئة التي لم تعد قليلة مما يزيد من نسبتهم الأقصائية عن السوق التشكيلي.وان وجدت بعض الاستثناءات وهي قليلة، فإنها خاضعة لشروط المؤسسة الأقصائية وبما ينسجم وسياستها الإعلامية المستغلة وغير البريئة معظم الأحيان، والحل السحري لاحباطات غالبية هؤلاء التشكيليين المادية هي اعتماد مواردهم على مهن أخرى توفر لهم المواد الأولية وسبل العيش برغم انتفاء صفة الهواية عن عملهم. ليس من السهولة إمكانية التعرف على النسبة المئوية لاشتغال الفنانين التشكيليين عموما في مجال اختصاصهم، كون غالبيتهم منتجين فردانيين، ونتاجهم يخضع لذائقتهم الشخصية قبل الجمعية، وربما أيضا الجمعية، لكن من المؤكد أن فرص عملهم في بلدان أوروبا تزيد عما هي في الدول الأخرى ولو بنسب متفاوتة وحسب رسوخ التقاليد الفنية وقوة المجال الاقتصادي الذي يحتويها، ليست فروع الفن التشكيلي كلها متوازية في سوق العمالة الوظيفية، إذ يبقى المصممون والمصورون الفوتوغرافيون (مثلا) هم الأكثر حضا في الحصول على عمل ودخل ثابت أو يكاد يكون ثابتاً، ذلك لحاجة المؤسسة لعملهم ضمن كادرها، هذا يعني وبشكل تقديري أن نحو (95%) من الفنانين التشكيليين لا يشتغلون في تخصصاتهم الفنية والتي هي مختلطة الأداء وحسب المعاصرة(رغم أن نحو (99%) منهم لا يحصلون على فرص عملهم في عموم العالم، وان حصل أي فنان تشكيلي على منحة أو مبلغ ما عن انجاز عمله، فان ذلك مرهون بقرارات رعاة الفن ومؤسساتهم سواء الرسمية أو غيرها، إلا أن عمله يبقى خاضعا للمصادفات غالباً وضروب ظروف المسابقات والتكليفات وخفايا امورها.الدخل الثابت هو الدخل الذي توفره المؤسسة لعامليها، وفنيي الأعلام الرقمي هم الأكثر استقرار في مداخليهم في أوروبا، لذلك تتوسع وتتنوع الدراسات الإعلامية (الميديا) في كليات الفنون مشكلة محورا إنتاجيا لا بأس بمأمولة مداخليه المادية والتي تصل أرقاما خيالية في بعض الأحيان، بينما تبقى فروع التشكيل التقليدية غير خاضعة للاستقرار المنفعي المادي, ويبدو إننا سوف نشاهد أجيالا فنية جديدة تفقد صلتها إن لم نقل بنسبة كبيرة بالفروع التشكيلية التقليدية فإنها سوف تكون اكبر بواقع المكاسب المادية أو الدخول الثابتة والمتحركة للأعلام الرقمي وفروعه الفنية الإنتاجية، برغم هذه النظرة التشاؤمية، فان إغراءات التشكيل التقليدي سوف تكون باقية ما دامت ممارستها فردية وجدانية وممتعة بحدود نوازع إشباع الحاجة الذاتية الجوانية. |