ان النمو الطبيعي لرؤية الفنان اوصلته سريعا - الي حد بعيد - الي مفهوم تفتيت الصورة فليست شخوص الفنان التي يصورها في لوحته مجرد تمثيل للواقع الطبيعي ، بل هي وسيلة للتعبير عن الشحنة الوجدانية التي يريد الفنان يفرغها داخل اطار اللوحة . فالانسان عنده يبقي مقياسا لكل شيء وصورته محور فنه لكن الاشكال التشخيصية تتفتت لتكون لغة شكلية خاصه تجسد رؤيا الفنان المعاصرة للواقع ، لغة الالوان الغير قابلة لان تترجم عبر وسيلة اخري .
فالواقع - كما يقول الشاعر (أبو للينير ) - ليس أكثر من ذريعة ، فهو عند الفنان بداية ينطلق منها نحو تجريد انطباعي يجسد من خلاله رؤيته الجمالية بين الفن والواقع و بين الفن والطبيعة مطلقا العنان لحريته في تصوير الفراغ الاكثر اتساع والبحث عن تشخيص الكامن في اعماق الشيء لكي يجد المعني العميق والمبهم لما يحيط به ، ساعيا في الوقت ذاته الي التجديد بالغاء التشريح الواقعي وابداله بتشريح بصري انطباعي لتغدو اشكاله اكثر صفاء واقرب الي جوهر النقاء والمعانات التي حاول الفنان بكل جهد ابرازها..
فالوعي داخل الشكل واللون يندمج في حالة نوعية ليتحول الي وعي يمسرح الواقع بشعرية مكثفة دون ان يتحول الي تفسيرات حسية مادية جامدة فهو مثلا يعالج خصوصية اللونين الاحمر والازرق في اغلب اعماله من خلال البحث عن كمون بصري وخصوصية حرارة تلك الالون وشدة اضاءتها وسط غبش لوني ابيض بارد يحيط اللوحة كغبش الفجر محاولا خنق طغيان ما تلتحف لبوس تشخيصاته النسائية و غالبا ما يكون بالون الاسود ، كذلك يعالج هوية الملمس بخشونة ونعومة الضربه اللونية ودرجة توترها لحظة التنفيذ مما يخلق حوارا بين كل عناصر التكوين بثنائية الحسي والعقلي حتي تبلغ الاشكال والالوان حد الالتئام والتلاشي فاللون وعناصر التشكيل الاخري تمثّل انبجاس لما هو حسي . فيما الفنان يعمد الي تفجير هذه الاشكال لعله يعثر تحت هذا الركام اللوني علي معان سرية تكمن وراء الضربات اللونية التي يحاول بها ان يخلق عالم خيالي يتميز بدقته الشاعرية ، فالبقع القاتمة التي تبدو كالأشباح الهائمة تصرح بعمد عن احساس بفجيعة ما ويلفها حزن دفين ، انهن نساء عبد الجبار سلمان التائهات في عوالم شرقية ممتده يكررهن ملتفعات بحلم اثيري يغير وجه في كل لوحة .
ان المرأة في اغلب اعماله تعيش عبر ايقاع متميز من خصوصية فنية ونزعة تاملية تتسم بشفافية الرؤية وان اكتنفها شيء من الغموض جعل اعماله تقترب من تيار الوعي بالتداعي الحر للهواجس والافكار ، اذ تتمركز الفكرة في اعماق الذات لتصل الي المتلقي - الاخر - بشكل متنامي ، فهن يخرجهن من التجسيد الآدمي ليتحولن الي معاني وخواطر ، منطليقات الي عوالم علوية محفوفة بنورانية باهتة لكنها موحية ومتوحدة ، ينصهرن في مجاهيل الغياب والهواجس ليعدن جزء من انكسار اجتماعي كبير يحاور ذاته بصمت عبر مكونات الذات التي تمور في اعماق الشخصيات للبحث عن طريق ما في معرفة ما هية المتنافضات ومعاقل الحيرة التي تكسر كل محاولات الطمانينة .
اننا امام لوحات توحي بحوار لا يطغي فيه العقل علي الوجدان ،ولا العكس، وانما هو حوار يّخلق مع العمل . اذ يرتفع الرمز الي مستوي مساوي في ارتباطة بالضرورة الحياتية كي يغني مدول ذلك الرمز. انها نموذج لرحابة الرؤية واتساع الافق والوعي بايقاع العمل الفني دون اللجوء الي الابهار او الصراخ بالشعارات.
ان هذة الرؤية الغامضة التي تزداد وضوحا كلما زاد التامل ، تشتغل علي وتر الاثارة الهادئة ذهنيا لحث المتلقي علي متعة التامل ، عبر دلالات رمزية موحية لعالم الشخصيات (المراة) الداخلي بتاثير شعوري يفجر اكثر من سؤال عن حلم هذا الكائن وهواجسه وما يعانية تحت تاثير ضغط الحياة. ويبقي (عبد الجبار سلمان ) وفيا للبيئة التي تربي في احضانها فرغم تغربه في اصقاع بعيدة عن اجواء الشرق الصحراوي لكنه استمر ياخذ من معين تراثه المحلي وبقت الوانه متاثره بالسطوع الفيروزي والاجواء الحاره.وتبقي تجربته ثريه ومستمره علي امتداد اكثر من اربعة عقود في مجال الابداع التشكيلي.