«ولكنْ مَنْ هم، قُلْ لي، هؤلاء الجوّالون، الذين/ هم أكثرُ تشرّداً حتّى منّا، المُساقون اضطراراً/ منذ بَدء حياتهم، لأجل مَنْ، ولحبِّ مَنْ/ يُضغَطُ عليهم بإرادة غير قانعـةٍ أبداً؟» هذه الكلمات المتسائلة التي احتوتها المرثية الخامسة من «مرثيات دونيو» للشاعر الألماني ريلكه، كانت تحاكي بيكاسو في لوحته «عائلة البهلوان الجوّال» La Famille des Saltimbanque. السؤال واللوحة يشتركان في البحث عن الإنسان، عن الوجود... تلك هي صورة الرسائل التي تثير الأسئلة المؤلمة! صور يطرحها الفنان، وأخرى تطرحها الفلسفة. هل علينا أن نتذكر هنا تأثير «يد الله» لرودان على روح جبران خليل جبران؟ هل نتذكّر كتاب «الطوطم والحرام» لسيغموند فرويد وتأثيره على أجيال من الفنانين التشكيليّين؟ صادق كويّشتساؤل ريلكه استفزّ الفنان، فجاء الجواب بصيغة متسائلة أيضاً: «عزيزي ريلكه، نحن كلّنا مسافرون». هذه العبارة، منذ 14 أيلول (سبتمبر) الحالي، تتردّد باستمرار وباللغة الإنكليزية في معرض الفنان العراقي صادق كويّش (1960) الذي احتضنته قاعة «غاليري مايكه هوستيجه» في هولندا. 12 لوحة (نُفِّذت على الكانفاس بالحبر الهندي وورق الرز) وثلاثة أعمال تجهيز عرضت على ثلاث شاشات تظهر بشراً يلتحفون البياض، كالكفن، قد تغري اللاجدوى في حركة الجسد، والمشاهد في تلمّس «العدم» داخل الوجود... كل تلك الأجواء يغلفها صوت يلاحق المشاهد في كل زوايا المعرض Dear Rilke, we are all travellers. اللوحات، الفيديو، الصوت الذي يحاول استفزاز الأسئلة عند المشاهد، المساحة والفراغات مجتمعةً تكوّن عملاً متكامل الوحدة والموضوع. مَن يعرف صادق كويّش، يعرف تماماً عالمه المنصهر ببوتقة الفنّ والفلسفة. ويعرف أيضاً تأثره بالتعبيرية الألمانية: «تأثرت بعمق بالتعبيرية الألمانية. فرسانها إلى جانب الشعراء والفلاسفة الوجوديّين والمتصوفة، عجنوا قلبي وعقلي بشقاء الموت ووعي الوجود». هكذا يفصح لنا كويّش عن تركيبة فنّان يؤمن بأنّ الفن والفلسفة يتجهان إلى هدف واحد، وإن اختلفت الأدوات.
معرضه الحالي واحد من سلسلة معارض ترتبط بحبل البحث عن «الوجود». مشروع فني فلسفي بدأ في بغداد منذ تنفيذ ذلك الدفتر الغرافيكي «سيرة حياة رأس» وعرضه عام 1989 في بغداد. يحكي العمل قصة رأس بشري مقطوع يبحث عن جسد يحمله ليعرف الاتزان، الانسيابية والتنقل، ويتخلّص من الدحرجة على الأتربة والأوساخ والمياه الآسنة ولسعات ديدان الأرض في إشارة إلى أزلام السلطة وعيونها في ذلك الوقت. ثم يقتنع الرأس أخيراً بأنّ البحر خير جسد لحمله: «سيكون البحر بيتي... سيكون البحر جسدي»، فيدخله ويتذوّق الغرق ثم الموت. وسبقت هذا أعمال تناولت مواضيع مُثاراً للأسئلة، مثل «الاختيار الأخير» عن رجل يشرع بقطع رقبته «الانتحار خلاصنا الوحيد في زمن الحرب»، وأعمال أخرى عن المجانين في مصحة «الشماعية» وعلاقتهم بالوجود. إلا أنّ التجربة بدأت تأخذ منحى آخر بعدما تذوّق الفنان متعة الإمساك بالوقت وحرية البحث. منذ أقام في أوروبا عام 1996، أخذت أعماله طابعاً تنفيذياً آخر. هكذا، تمازجت عناوين معارضه مع ثيمة العرض، وصار عنوان المشروع يطرح قضية محددة: «ابتعد عن سقراط» في دنهاخ (لاهاي)، «مصغّرات إنسانية» في أمستردام، «للهوية وجه لا ملامح له» في المتحف المركزي في أوترخت، «مولود في التاسع من نيسان» في متحف ستادلك في مدينة دنبوش الهولندية. في هذا المعرض، بلور كويش قضية الوجود بحدّة وعنف، إذ عرض عملاً واحداً (3 × 8 أمتار) مع 11 جهاز فيديو تظهر صوراً فوتوغرافية لشاشة تلفزيونية تعرض صور الحرب واحتلال العراق صوَّرها الفنان منقاداً تحت تأثير الصدمة. زائر معرض «عزيزي ريلكه، نحن كلنا مسافرون» (يستمر حتى 12 أكتوبر) يتلمّس عنف اللون الأسود الطاغي على شخوص لوحاته، شخوص يكاد المشاهد يتصوّرها ظلال أشخاص أو أشباحاً لولا تقنية ضربات اللون البسيطة التي تتضح غالباً على الأكف بالأصفر المحروق أو الرمادي المخضر... وضربات لونية أخرى تظهر كنقاط أو ثغرات في جسد التكوين لتخرجه من ستار الوهم في ذهن المشاهد. اللون الأسود، لون إشكالي بامتياز، وهذا ليس خافياً على الفنان بكل تأكيد، لكن هل تقف دراسة الغرافيك التي اختص بها وراء ذلك؟ تماماً كلوحات الخزَّاف التي يغلب عليها لون التراب والطين، والمزخرف التي تعج لوحاته بالحروف؟ «النزعات الإنسانية، البكاء والصراخ، الغربة داخل الوطن، ووأد الأمنيات وغيرها، تمثّل سواداً هائلاً يطبق على صدر الحياة، هذا السواد يأتي بطريقة ما ليدخل اللوحة كما دخل الحياة. الحكمة الموجودة في اللون، الوقار، أو وقار العقل، يجعل منه لوناً صادماً، وخصوصاً إذا استُخدم بطريقة حادة». أعماله هذه، تشير إلى طريق صعب اختاره صادق كويّش. معاملة الفن بالسؤال الفلسفي واستفزاز المشاهد وإثارة الأسئلة عنده: «إذا لم يُثر العمل الفنّي أسئلة لدى المشاهد، فهناك إشكال جديّ يشكو منه» هكذا يفكر الفنان.
|