بعد ان رفضت المتاحف الأمريكية عرض اعماله تصنع التعبيرية فسحتها في رؤية العالم ، لمن يعي جيدا ان مايراه ليس حقيقة.. بل هو قناع الحقيقة .. ودلالاتها الجانحة نحو كل اتجاه ويترتب ساعتئذ ان يشكّل الرائي تلك الحقيقة من زاويته الخاصة ، ومن خلال قدرته على ايصال اشاراته وتداعياته عبروضع نفسي خاص وهو يرى الى الوقائع والناس والوجوه .. ومن خلال فضيحة سجن ابي غريب تحت سياط الأحتلال كان فرناندو بوتيرو قد عمل طويلا منذ الأحداث اللاانسانية تلك معتقدا ان كابوس صور المجزرة والفضيحة لن يغادره ابدا حتى انجز مشروعه بعد سنة من تلك الفضيحة التي ستلازم السيرة التاريخية لعقيدة الأحتلال وفكر المحتل و من منحه الشرعية ليصبح حقيقة الدمار والخراب لبلاد الرافدين .. وبوتيرو لم يشتغل على بيان سياسي حول ابي غريب يوم ان رفضت متاحف امريكا استقبال اعماله بل سجل وثيقة خاصة من التعبيرية العميقة لكي يكون للفنان موقفا وثائقيا وفنيا .. لكنه بعد ذلك لم ينس مهمته الفنية والجمالية رغم تمسكه المتواصل بموقفه من الأحتلال في كل مكان في العالم ومن الدكتاتورية في اميركا اللاتينية .. ومن قضايا المرأة .. وبخاصة حين تستضيفه متاحف العالم اليوم بعد ان عرف العالم لماذا غازلت متاحف امريكا حكومتها ورفضت استقبال بوتيرو وفرناندو بوتيرو- 1932 - نموذج للرسام التعبيري الخا لص القادم من اميركا اللاتينية .. يعبر ، مذ عرف في الستينات ، بقوّة عن الفن التشكيلي وتحولاته امريكا اللاتينية.. هذه الأرض الملغّزة.. بفنها العريق وفولكلورها الملوّن .. وثقافتها المليئة بالرموز والدلالات .. فقد انشغل فرناندو بوتيرو بصورة الأنسان وتشكيلته الفيزياوية ودلالاتها منذ وقت بعيد حتى غدا هدفه الأسمى .. وهو يرى المرأة ايضا بشكل استثنائي – كما في معرض منحوتاته الأخير 2007 ببرلين - .. لينظر الى هذه الكتلة الأنسانية في وضعياتها المختلفة كتعبير عن حياة وعاطفة .. ومن وجهات نظر مختلفة ، لنقل انه يحاول استجلاء دواخلها من زوايا مختلفة ، وهو يطلق كل عدّة الرسام التعبيري ، في التهشيم المر والتشظية الممكنة .. الى درجة المبالغة في المضاعفات في الكتلة كما في – امرأة مستلقية وامرأة جالسة - ، او اللعب بألأشكال الى درجة الكاريكاتور .. او بالكشف الوضيع الى حّد الأسى .. المدمر او الخدعة ولعبة المحاكات وقسوة التعبير في العاطفة وفي الألم ايضا ، كما في لوحاته الكثيرة حتى قبل معرض منحوتاته الجديد . فرناندو بوتيرو ولد في الثلاثينات في ميديلين في كولومبيا ، ، وتعلم في اوائل القرن الماضي ان السيكولوجيا هي أداة الكشف الفني .. وان اكثر الناس سويّة كما توحي صورهم .. هم اكثر الناس هشاشة وتفسخا .. وتشظ في نفس الوقت .. ومن دون ان يتسلح الفنان بعدة خاصة لأرخنة تحولات الذات فانه سوف يظل اسير التصوير العابر . و في اكثر من محاولة لقراءة تجربته وكشف ايقاعها نراه وقد عالج اعماقا بعيدة في ظلام الجوهر لكل ماهو برّاني .. في الشخصية التي ينتخبها بغية كشف تذبذبها وتحولها الداخليين رافضا اية دلالة واقعية ثابته في مظهر الناس وكتلتهم الجسدية البادية في هيئة انسان ..
من تجاربه المهمة التي عرفه بها السياسيّون .. و المهتموّن بفنه بذات الدرجة من الأنبهار .. انه اشتغل 14 شهرا تحت تاثير كابوس فوتوغرافيا فضيحة ابي غريب .. تلك الصور التي صورتها الجندية الأمريكية ، وندي انغلاند ، المتهمة بكل تلك الفضيحة هي وعشيقها وبضعة جنود مدمنين وقتلة من جند الأحتلال ... وبعد سنة وشهرين من التخدر تحت ، ذلك الكابوس الذي صنعته قوات الأحتلال .. اثر كشف الصحفي الأمريكي سيمور هيرش في النيويوركر عام 2004 عن الفضيحة ، قدم بوتيرو 42 تخطيطا و38 لوحة لعرضها في الولايات المتحدة الأمريكية .. حينها رفضت كل غاليريهات الولايات المتحدة عرض اعمال بوتيرو المستوحات من نظرته للفضيحة تلك وضحاياها الذين يبدون في كامل عافيتهم وهم يواجهون العذاب والموت – -كما علّق مرّة -.. ليستبطن هذه الشخصيات وهي تعاني القسوة والفضاعة من جنود الأحتلال الأمريكي في سجن ابي غريب .. فيما كان هو تحت سطوة الكوابيس.. يستلهم و يرسم ويستعيد وكانت يومها قد فسحت شتى دور العرض والمتاحف في العالم المجال للفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو لعرض أعماله الخاصة بفضيحة ابي غريب لكنه فوجيء برفض المتاحف الاميركية
وعزفها عن عرض اعماله تلك حيث رفضت جميع المتاحف الاميركية التي قدم لها بوتيرو لوحات تصور الانتهاكات التي مارسها عسكريون امريكيون في حق سجناء مدنيين ابرياء داخل السجن الرهيب .. الا انه استطاع ان يعرض اعماله فيما بعد بمبادرة شجاعة في مارلبورو جاليري في مانهاتن . وقال بوتيرو يومها : إن رفض المتاحف الأمريكية عرض هذه الاعمال لهو أمر مزعج في بلد يلوّح سياسيوه بحرية التعبير ويعدون بالديموقراطية . وكان بوتيرو يقف وسط لوحات تعرض سجناء مجردين من ملابسهم ويتعرضون لانتهاكات من قبل حراس وكلاب سجن ابي غريب ولكن عرضها كان رهين أسلوبية فنية مختلفة تستلهم الفوتغراف ولاتكرره . وقال بوتيرو ان اللوحات هنا مستمدة من نصوص تصف الاحداث وليست تقليدا للصور الشهيرة. ويومها علّق ديفيد دارسي الناقد الفني التشكيلي : ان المتاحف الاميركية مترددة في اغضاب الحكومة. وانها كانت ستقبل أية اعمال اخرى لبوتيرو على الفورحيث انه يعتبر من اكثر الفنانين المعاصرين الذين يحظون بالتقدير بعد كريستو ..
عندها ، وحين عرضت اعماله في الغاليري الأمريكي الوحيد الذي وافق على عرض اعماله .. مارلبورو غاليري .. ازدادت معرفة العالم بفيرناندو بوتيرو ، اكثر مما عرفته تلك المحاكمات التي عرضته للموت في الستينات في بلده كولومبيا وهو يناضل ضد الدكتاتورية .. او بسبب رسومه وتلغيزها السياسي والأخلاقي.. واثر معرض مارلبورو غاليري في نيويورك استضافته اهم قاعات العرض في فينيسيا .. وروما وباريس – شارع الشانزليزيه .. ولندن .. ثم نيويورك – بارك افنيو .. ولكن كان ذلك الخيار متأخرا.. هنا في برلين يفاجئنا الرسام الكولومبي فيرنادو بوتيرو بستة عشر منحوته تعبيرية كاشفة للألم واللذة في آن معا وهو يعرضها امام الناس اطول مدة ممكنة هذه المرّة – اذ يستمر معرضه مدة شهر كامل منن 25 ايلول ا الى 24 اوكتوبر/ تشيرين الأول 2007 - في حديقة لوست غاردن في متحف مدينة برلين .. ليمنح المهتمين اطول مدّ ة من الرؤية البصرية المعمّقة والتأمل ( التعبيرية لاتعرف وطنا محددا ) هكذا يعبر بوتيرو ،..( فأنا وان كنت اعجبت بالنمساوي كوكوشكا لكني لم انس ابدا فان كوخ ولمسته اللونية في لوحاتي .. او كيشنر الألماني وكالنسكي او فاسيلي او كاندنسكي من التعبيريين الروس .. وغيرهم من التعبيريين في كل تاسيس).. انه يظن ان تعدد شخصيات من كل جغرافيا ممكنة في الأنتماء للتعبيرية .. يمنحنه الشجاعة للتاكيد دائما ان التعبيرية حركة كونية لها ملامح خصوصيتها في المكان .. وفي جغرافية العقل الذي ينتمي الى الحركة وابداعها .. وهو اذ يفاجىء المهتمين بعمله الفني انما يخالف قواعد عمله التشكيلي الذي عرض في كثير من قاعات العرض .. ليشتغل هذه المرة على التعامل مع شخصيات شتى في16 منحوته بمواد مختلفة ، نزع فيها الى كسر رتابة التعبير الثابت الذي تعكسه صورة شخصياته وكياناتهم نحو .. تبديد تلك الصورة .. ومنح التوهج الذهني الطاقة للتعبير عن زوايا متعددة للشخصية وحالات مغايرة لطبيعتها المعلنه دائما كما يفعل في لوحاته هذه المرة ولكن على مادته النحتية .. والمعرض غريب مثل غرابة المدينة .. برلين بكل ثقافتها المتاحة المفتوحة كمدينة عالمية الثقافات مفتوحة على الآخر ليحكي ويبتكر .. وقد شهدت لوست غاردن ، وكانها حديقة اللذه ، في الترجمة الحرفية لدلالتها في الألمانية ، اقبالا شديدا واهتماما بمعرض باتيرو الذي يبدو حدثا منقسما على نفسه فنيا .. وثقافيا ، بين ارث الجنوب ورؤية الشمال لتجربة انطوائية تمثل ثقافات الجدل اللانهائي للخلق في دول النمو المستحيل .. دول ثقافة الفقر. |