حتى عندما تكتب اللغة ذاتها ، بعد أن يصبح الكاتب شبحاً ، تحافظ على المسافة بين الأضداد . كذلك الرسم ، عندما يولد في المسافة ذاتها ، لا يخفي أبديته ؟ بين ابتداءات بكر ونهايات لا يعول كثيرا عليها .. انها خلخلة لا تجد الذات فيها إلا لوعتها ، عندما تروم دخول النص ، والشهادة ،والحفاظ على موقع النبل والطهارة . غالب المنصوري ، هو الآخر ، لم ير ما وراء المعنى ،
ولم يتلذذ بغوايات حاضر الرسم لم ير ولم يكن أعمى ، ولكنه ربما لم يعلن لنا ، إلا بمشفرات الرسم ، حيث الحلقة المعتمة للمصير تبقى غائبة مهما مثلت مرئياتها حضورها المستعار . فهناك ، في المرئيات ، كما في الكتابة التي تكتب نفسها ، اختفاءات لا يلمحها المشاهد الغائب ، بل تبقى تتوارى ، كالأطياف ، في صمت الكتابة ، واثر الرسم التلميحي . هنا يأخذ الرمز مداه في البوح والاختفاء . فهو يحمل نهاية المسافة ، مع ابتدائها : تارة يصبح المعنى سما قاتلا ، وتارة يمارس غوايات المخدر ، او الصمت كخلاص مشكوك فيه .
غالب المنصوري ، غادر جماليات تقع خارج الرسم ، ولكنه يدرك عميقاً ان طواحين سرفانتس تتناسل ، كالقدر ، يصنع تضاداته بإحكام ولكنه لا يتخلى عنها . فالفنان منذ زلزال عام 1967 ، مرورا بحرائق وطوفانات لا تحصى ، حتى شبح سيادة ما بعد الحداثة ، في فاتحة الألفية الثالثة ، درب ذاته على أن يجمع الأضداد في مشهد للبوح ، وفي مشهد للدحض ، وفي مشهد للمباهاة .. الخ معا : فالنص المرئي يخفي محركاته تارة ، وفي الغالب ، يعلنها ، كانتظار . فهو لم يختر ورطة أن يولد ، كما لا يريد أن يجعل الموت قرارا للحكمة ، فالرسم ـــ لا الكتابة له صفاته ، حتى عندما تكون الحكمة قد ألغت الحركة ، وأعادت إلى المكان صفره الأخير . فقد اختار الومضات الشعرية ، مادة للبصريات : مشاهد الفصول ، والعلامات المتواصلة للأمل .
إن مصائر تجاربه تجعل الأسلوب ملغياً على عكس ما ذهب إليه جيل الرواد ، ومن جاء بعدهم .. فالأسلوب لم يعد تعبير ، او توكيد ، او فجوة للتقدم . انه ، عند المنصوري ، حفر فوق كهوف عصر يحمل علاماته الاستهلاكية ، وسيناريوهاته بأكثر الاستحالات استحالة . فالرسم لا يوثق خطانا إلى الأبدية ، ولا ينقش جدوى أعراس الموتى . فالرسم له تاريخ أول تحديق في الجدار ، جدار القلب الذي صار فضاء للمنافي ، ولعصور تعلمت كيف تدرب أشجارها على المقاومة ، والحكمة ، معا . التاريخ الذي يلغي آثاره ، كمرجعيات ، ويعيد تنصيصها ، كأنها تولد توا . هذا الفعل الشعري ، بكل مراراته الجمالية ، يحمل ما دعاه جواد سليم ، بهاجس اليد فوق القدر . حيث حاول شاكر حسن ،في أوائل سبعينات القرن الماضي ، الانحياز للبعد الواحد ، البعد الوهمي . ولكن غالب المنصوري ، حافظ على مصائر مختلفة . .
لقد آل على نفسه ألا يقع في مصيدة الأسلوب ، وان لا يعوّل على المعنى وحده ، كما لم يواصل الحذف حد اخفاء الرسم ، بل راح يعلن تصادمات يتأسس عليها نصه . فالرسم تصنعه مرئياته ، ولا تحركه إلا أطيافه الأقل حضوراً ، والأكثر اثارة للاسئلة . فاليقين يبقى هو الدافع ، وراء الرسم . أما الرسم ، عند المنصوري ، فهو الذي يختفي داخل عمليات البناء والهدم . فالرسم لا يتلذذ بالبذخ الذي شاع في تجارب لاتحصى، كمنمنمات ومزخرفات ونصوص حيادية ، كما لم يترك للصرخة أن تهدم مأواها ، ولكنه ، في هذا المسار المعقد ، لم يعقد صلحا بنيويا إلا كامتداد ،وتوكيدات دفعته الاختيار ان يفكر رساما ، منذ سبعينات القرن الماضي . فالفنان مزدحم حد الفراغ . فالطرق ، كالأساليب ، لا يتم اكتشافها إلا عندما تكون الحكمة فائضة .مع ذلك ، ان انحيازه لذاته جعله يوثق مصائر تأملاته على صعيد التخطيط ، والألوان ، وباقي العناصر. . يوثق اشتباكات الأرض في مركز النص : تلك الفضاءات وهي لا تخفي اكثر البؤر غيابا ، لان الإمساك بالزمن سيتمثل بجمع الحدود ، السم الذي لا يقتل ، والدواء الذي لا يشفي . فالفنان ، طوال تاريخ الرسم المعاصر في العراق ـــ والرسم العربي ـــ لم يفصح عن سكينة تماثل عصر سومر أو أكد
ولا حتى عصر المخطوطات العباسية .. بل عن مساحة بلا حافات ، وشموس صارت أشعتها ، كنداءات الموتى ، تترك الأبواب بلا انغلاق . عمليا ، يدمج غالب المنصوري معارفه ، لتجارب تتداخل فيها
الضفاف ، والاشراقات ، وعنف لا يكف يوثق تاريخ الابتداء . انه لا يرسم نفسه ، ولا يكتفي بالمعنى للاحتفال فقط ، بل يستنجد بما وراء الرسم ، وبما وراء الآمال . فالضوء ــ وكل تاريخ الرسم ــ يسمح لنا بالتوغل في كثافات العتمة ، حيث ، بانكشاف هذا كله ، يصير الرسم يرسم نفسه ، جارا الرسام إليه . فوحدة القياس ( اللوحة / النص ) تقف شاهدة على أزمنة بلا زمن ، وعلى آتيان لا تعد بشيء . لان الرسام يرسم فجوة الترقب ، حيث النص يشفر خطابه للمتابعة . هناك مركز يشتته الرسام تارة ، ويجعله هدفا للرائي ، تارة أخرى .
المركز المكون بهوامشه ، وبالفراغات الرمزية ، وبالفضاءات الشعرية أيضا : المركز ــ الجنين ــ وكل كتلة انسحقت داخلها بانتظار الانفجار : حيث الرسام يرسم لغة أخرى ، بيولوجية وكونية ، معا ، داخل ما تراه اليد ، بعد أن صار الرسم استبدالا ، وصار صمته له مغزاه المعرفي. فالفنان ، عبر انتزاع الممكن في مواجهة المستحيلات ، يخترع إستحالات إضافية .
انه يرسم لكي يرسم الذي لم يرسمه بعد . كالمتكلم الذي يواصل الكلام بحثا عن الكلام الذي ينتظر خروجه من مأواه ، ومثل الكاتب الذي يكتب ويكتب كي يبلغ حدود الكتابة التي لم تكتب بعد .. إن غالب المنصوري ، يتدرب على مرافقة المستحيلات ، فحداثات سومر ، قبلنا ، تركت أطيافها تزدهر في تجارب جواد سليم أو بدر شاكر السياب ، لتجد ، عندما تفتح لها النوافذ ، علامات حضور . والمنصوري ، الذي لم يمارس دور قاتل الأب ، لا يجعل من الابن صدى وسط براكين الحداثات المعاصرة ، بل يدربه على الاستبصار ، والإصغاء . فالنص تتجانس فيه عناصر اللا تجانسات .. متجاورات للمرئيات مع أضدادها ، حروف وفراشات وطيور وثيران وخيول ، فضاءات وبؤر مشتتة أو في المركز ..
الخ لا تجانسات تشهد احتمال ما لا طاقة إلا أن يجاورها ، يدمجها ، يشذبها ، بغية اكتمال الحذف .. انصهارها ما وراء المعنى بالرمز البصري ، والجسدي بالغياب تام الحضور .. انها ذات اللعنة التي ولدت فوق جدران كهوف أسلافنا ، تولد ، ولكن داخل فضاءات لا يغيب عنها إلا الضوء ، وعناصر الأمل : الدافع الذي يفتح فجوته ، ليدون ، بالرسم أو بالكلمات ، تاريخ اللا حافات ، عبر حافات الرسم .. وحافات المعنى |