ثمة روحا مشرقية تختصر عصورا من التصغير والمنمنم والحرفة الدؤوبة في الشرق الممتد حتى اواخر الصحارى البعيدة . وثامر داوود كأنه يتقصد اثارة النبرة الخاصة لفنون التصغير وحرفيتها ليثري البعد الزمني الممتد من مدرسة بغداد للتصغير والمنمنم .. الى الآخر .. وسط حشد من الفنانين ( 29 فنانا امريكيا يعرضون مختلف الفنون ) اذ يقرر ان يختصر حضوره في 15 عمل فني من مصغرات تشكيلية هي نتاج تكثيف حي لفكرته عن فنه .. ورؤيته العامة للرسم الحديث في بلاده .
*
جرّب ثامر داوود عرض خبرته في التصغير من قبل حين اسهم في عرض للمصغرات من لوحاته في تجربة سالفة حين اسهم في معرض مشترك في قاعة حوار ببغداد 2002 وكان المعرض يومها حدثا مضافا الى مجمل تجاربه بل استطيع ان اشهد ان المعرض كان اضافة فنية مهمة في مجمل النشاط التشكيلي تحت ظل حصارات وحروب وموت مهدد . وهنا ، في غاليري روزنفيلد ، يختصر الفنان تفاصيل معرفية لمجموعة خبرات خاصة . يده وهي تقع على اشكال الحرف العربي ، وقد اتقن الخط وأضافه الى ادواته .. تقيم كيانا حروفيا وسط كيان تشكيلي محض ، حيث ينصقل شكل الحرف .. ليرمّز المعرفة الحروفية ويختصرها .. وتتكثف النقطة في مصغراته ، الى اختصار كوني لفلسفة ممتده من الوجود المكتض بألأسئلة الى العدم اللانهائي في مدى معتم .. بهذه الطريقة يعرّضنا ثامر داوود (1966 ) الى تجربة رسام رافديني يثقل عدّته بمفردات فنية وخواص وتجارب كثيفة ..
على سطح الفسحة المحدودة ، التي تمنحها تلك الحدود الضيّقة والصغيرة للوحات مجتزأة بعناية ، يحفر مجسمات لونية ‘ هي رليفات متكورة حول بؤرتها الأولى ، وكأنه يحيلنا الى نص آخر .. لكنه يبني نصه الخالص .. تلك الرليفات وقد تركتها حضارته الرافدينية القديمة على صفحات اللاوعي المليء بالتفاصيل والمعارف ، هنا حدث سيكولوجي يختصره الرسام ليضعنا في هذا التجسيم المكثّف امام موضوعة الشكل المنجز في ارث بلاده .. لقد ولد الفن الرافديني تحت خيارات دينية واجتماعية رسمت حدود مهمته ، لكن الفن هنا ، في مصغرات موصلة ، هو نتاج وعي مغامر بكل مرجعية وكل احالة .. اي انه فنان يعي ان مهمة الحداثة لاتعني تغييرات برانية انما تمضي الى تغيير الجذور والأصول الراسخة ايضا . وفي اعمال ثامر دواود ال 15 متلازمة حضور لموتيفات ، ودوائر ، ورموز خلاصة معرفيه لديه اشتغل حدسه الحديث ليغير دلالاتها بفعل خبرة قصدية .. وثقافة رسام يمتد جذره الى حضارة ممتده في الزمان .
يختصر ثامر داوود في مصغراته كل خواص حركة التجديد في بلاده . يبدو هكذا مفعما وحيويا ، انه وليد ذلك التفاعل المتواصل من متراكم معرفي ، وتقص بحثي ، بأعتباره ينتمي الى الحركة الثقافية عموما .. منذ اول اشارات التغيير التشكيلي خلال عقدي الأربعينيات والخمسينات في العراق . لقد دأبت حركات التجديد في العراق ( التشكيل والعمارة والشعر ) على طرح السؤال ما اذا يحق للحركات الفنية تغيير فعالية الجذور وكينونتها ، او آثارها وحدودها المرسومة ، محذرة من ان التمسك المغلق بالثبات سوف يؤدي الى تكرار نمطي ، لذلك كانت الحركة التشكيلية العراقية في الخمسينات والستينات هي نتاج جهد جمعي لعقل انجز مهمة تغيير ..
واذ ندرس اعمال وتجارب .. ثامر داوود سنكتشف استيعابه الأكيد لمتحولات التجديد في بلاده منذ اول البيانات الفنية .. حتى آخر مره يغادر البلاد تحت ضغط النكوص .. والتراجع .. والعوده الى لحظة الظلام .
انه في مصغراته يعرض خبرات اجيال من رسامين اشتغلوا على التغيير وعلى الأتصال بالبيئات الثقافية العالمية .. لذلك يستعرض اقصى درجات خبراته وتقنياته وهو يحوّل فكرته الى كيان مكثف يوصل رسالته بأقل مفردة ممكنه .. وسط بيئة معرفية وتشكيلية مكتضة بمؤثرات الأتصالات والتقنيات .
في عمله تتغلب تلك المساحات التي تعارض الغياب .. بحضور المعنى الذي لاينفد ، انه يسكت اللغة المنطوقه ليكتفي بالهمس .. موحيا او مصرحا .. لكن بأقل علامات ممكنه يتيحها رسام خبير
*
النص عند ثامر داوود يقوم على جوهر راسخ ، كتلته اللونية .. اقول تقنيته تنم بحذر عن رغبه بألأخفاء لكن مرونة حركته اللونية تفضي الى التصريح الملخّص من خلال موتيف او علامة او حرف .. وسط هيولا لونيه باذخة ..
كل هذا الشتاء الذي يحيط بمرسمة اوبقاعة العرض لم يستطع تغييب الرؤية اللونية او اضعافها عنده ، كانت الوانه مضيئة مثل اعماق فنان يكتشف بمصباحه هو وليس بعيون أخرى ..
بهذه الطريقة لخصت مصغرات ثامر داوود حضور ارث وحضاره برؤية زمن آخر