... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

  سينما و مسرح

   
عونـي كرومـي.. أربعـون عامـا ًمن العطـاء الثـر للمسرح العراقـي

سعدي عبد الكريـم

تاريخ النشر       23/01/2009 06:00 AM


 حينما تقودنا ملاذاتنا الحوارية في بعض الأحايين  ، للحديث أو الخوض في جوهر المحاولات التوثيقية التي تلامس شغفنا المتجذر فينا ،  وتلك السطوة الأصلية الأخاذة المتوغلة داخل مفازاتنا الفائتة والتي تبحث بتوءدة في تأريخ المنتج الإبداعي لـ( المسرح العراقي ) ، والتي هي بالأصل مناطقية اشتغالنا المهمومين بهوس رفعتها النبيلة ، بقصدية الإفلات المؤقت من ذلك البون الهزيل من ملامح أوقاتنا المترهلة في زمننا الفني المحتضر هذا ، او الذي شارف على لفظ أنفاسه المسرحية الاخيرة  ، يتشظى ذلك الحوار داخل محافلنا النائية ،  ذات الصبغة المسرحية بوجه خاص ، والتي يحاول فيها جلاسها استقراء ، أو تحليل ، وربما تأويل القناعات الشخصية ، الغير متوائمة بضرورة الإسقاطات الفكرية ، او الفنية ، و( كلٌ يدلو بدلوه ) الممتلئ بالقيح الحاضر في خاصرة مستقبل الفن المسرحي العراقي ، الذي يعاني من الهزال ، والمُتمازجة بداخلة لواعج الفاقة والعوز ، وبتواشج غريب داخل ثيمته الراكدة المحملة بملامح الأسى ، والفقر الفني ، وتلك ( الآه ) التي تطلع من متاهة تلك اللوعة الداخلية الدفينة ، التي تغلف ذاك البوح الحواري الذي يواسيه أحيانا شيئٌ من الهمس المسموع ، الذي لا يصغي اليه بوضوح واهتمام بالغ ممزوج بالفطنة ، إلا جلاسه والمعنيين بملاذاته الجليلة ،
 
  يستطرد الحاضرون في كنف وليمتهم الحوارية المسرحية ، المنعقدة على طاولة نصف مستديرة ، وايضــا ( كل ٌ يدولو بدلوه ) ، وفق طريقتة الاستنباطية ، او على ضوء ما تملية علية وجهته المذهبية المسرحية ، ووفق طرائزية مخاصب لواعجة المنهجية ، او ضمن سياقات ومناخات رحلته الفنية العتيدة في كنف خيمتنا الكبيرة ( المسرح العراقي ) ، وبخاصة حينما يستقر الحديث داخل رحم المحاولات الاستثنائية الحداثوية ، التي طورها ووضع أسسها ، وأناخ َ برحلِ بصمته الخالدة على جبين جبلتها الجليلة الأولى ، ورسم فوق لوحتها المتسامية النبيلة خريطة ملمحه المسرحي المتسامي ، ونَظَـرّ بل وعمل جاهدا ، وبمهنية مخلصة ، وبحرصية فنية تقنية عالية ، ومعملية صادقة ، ونَـذرَ جل حياته ، لصياغة هذا اللون المميز الراقي للمسرح العراقي ، حينها يروح الغادي ، ويغدو الرائح ، وتتطاير الاسماء العمالقة الكبيرة فوق خشبة تلك الطاولة النصف دائرية ، التي لا يستقر فوق متنها الهزيل ( استكان الشاي ) فكيف باستقرار الأفكار المتضادة المختلف عليها ، أو المتفق حولها ضمنا ، فوق أضلعها الخشبية الهزيلة ، ويحتدم المعترك على إيجاد ملمح يشكلن وبوضوح أسماء العلامات الفارقة والهامات العملاقة الكبيرة الذين أسسوا لذلك الإبهار الجليل ، وناضلوا فنيا ، وحياتيا وفكريا ، لعلو كعب المسرح العراقي بهذا الطراز الرفيع .

وفجأة يقذف أحد الحاضرين بزهو ٍ مأخوذ ٍ بالنشوة ، أسم الراحل المخرج المبدع الكبير ( عوني كرومي ) وراح يتطاول على الرقاب علوا ، وفوق المنصات أرتقاءا ، وكأنه يحلق في ذاك البعد النائي للإبداع ، بعدها وقف فوق طاولتنا الفقيرة الخجلة المُسومة بالبطالة ، حينما خرج الاسم من فيه ، وكأنه قد فاز علينا في برهنة نظريته التوثيقية  موضوعة حواريتنا السالفة ،  حينها تسمرت رعشات الاسترخاء المعهودة في أبداننا ، وأشرقت الوجوه ، وراح الألق يتراقص داخل المحاجر ، بغبطة متمازجة بحزن جليل يملأ المآقي دمعا شفيفا ً ، وراحت حدقات العيون تبحث عبر عبق مناخات المسرح وأريج جدرانه العتيقة المتألقة ، عن ذلك الوجه الودود ، صاحب القلب الكبير ، المعطر برائحة أم الربيعين التي ولد في ملاذاتها الخصبات ، هذا المبدع الكبير ، الذي أمتاز بتلك الرؤى الخلاقة ، والملامح الفنية الغنية ، والعمق العلمي التنظيري ، والذي راح يطرق بزهو مفعم بالحب ، مفاتن خشبة المسرح العراقي والمسرح العربي والعالمي بالإجمال بينما راح ذلك الصمت المقدس يغلف المكان برمته ، بحثا عن ملاذاتنا الفائتة ، في ملامح ذلك الراحل المبدع الكبير ، الذي انعكست صورتـه ( الحاضرة – الغائبة ) ، المشعة بالحياة ، على ملامحنا الهائمة بحبه ، والمفجوعة  بلوعة رحيله المفاجأة ، راحت النظرات ترسم لنفسها الواناً برائحة المسك ، لتحيلها الى هولا ًمن شوق أسطوري لرؤية شيبته الجملية الجليلة ، التي طرزت ملامحه المجبولة بالكبرياء والألـق المسرحي .

وراح الجمع الخير من الحاضرين على طاولة الحوار ، التي تسامت مفتخرة للتو ، وهم ينصتون بإبهار عجيب مأخوذ بالطيبة العراقية لصدى صوت الراحل المخملي ، الآتي من تلك الضفة النائية البعيدة ، السابحة في بون  تلك الماهيات النبيلة القصية ، وروحة الجليلة التي سكنت بطمأنينة أخاذة ،  في ذمة الخلود ، وهي تصرح بثبات ملحمي أزلي ، بما يعني لها المسرح :-

• كان وما يزال العمل المسرحي بالنسبة لي ، فعل حياة وبقاء ، وتطور ، وسؤال دائم عن الكينونة والوجود ، وعملية ابداع الذات ، الى جانب كونه ، رحلة ومغامرة في المستقبل ، بهدف الوصول الى الحقيقة .. ان المسرح لا يعتمد على المفاجأة والصدفة ، وانما يعتمد على التجربة .

هكذا كان ينظر الراحل ( عوني كرومي ) لفن المسرح  ، ويتحدث عنه بصوت غير مبحوح وعالٍ يسمعه كل من حضر الصالة المسرحية والفكرية الفائتة والحاضرة ، أو أختبأ بين ثناياها الخافتة الخجلة ، او دس رأسه خلف الكواليس ، أو راح مولياً خارجها .

نعم انه ذلك الراحل الذي فجعنا برحليه ، بل فجعت برحليه خشبة المسرح العراقي ، وفجعت به النظرية الحداثوية المجددة للمسرح العراقي ، هو ذلك الطود المسرحي الشامخ ، الذي تربع في قلوبنا كواحد من أعظم المخرجين المبدعين الذين أسسوا لحركة التجديد والحداثة في المسرح العراقي ، وهدف الى خلق الابهار العرضي والتنظيري ، لأنه فنان استثنائي خلاق ، لا يؤمن أو يعتمد البته على المفاجأة ، لان المسرح ، لا يتكأ على المفاجأة او الصدفة المحضة للنجاح الآني الزائل  ، ولأن مناهجيته وشرائطه العلمية المختبرية المتجددة ، تعتمد بالكلية على عملية الخلق والإبداع ، والإخصاب ، فالمفاجآت لا تنمي إيقاع ديمومته التكوينية الإبداعية ، واستقلاليته المتفردة ، بل تسقطها في مرحلة ما ، في أتون حضيض المفاجأة الكيرى ( الفشل ) والانزواء ، لكن عملية البحث العلمي الجاد ، والاستقصاء الاستقرائي المتنامي البحثي العلمي ، والتقصي الفاعل في إيجاد صور وأشكال مُتخلية جمالية جديدة ، هي التي تُصعد وتنمي مهام التفسير والتحليل والتأويل ، في متن القدرات الاستنباطية داخل الخطاب المسرحي ، لإذكاء الملكة الفنية التي تفرض نفسها بشكل حضاري لتسجل أسمها باستثنائية نجيبة منتقاة ، ضمن سجل الحركة المسرحية الدؤوبة والتجربة الحداثوية المرتكزة على قيمة النجاح الانتخابي النخبوي ، لذات الفعل المسرحي والإنساني ، لتُنشط من خلال تلك الرؤى الفنية الاستاتيكية المتجددة المولودة من رحم القيم المسرحية العالية ، والمنتعشة في كبد إيقاع الحياة وديمومتها المعاشة اليوميـة ، لتطوير الحاضرة العرضية الفكرية المسرحية الجمالية ، لان المسرح جميل ، بل ومجبول بالجمال .

ولد المبدع الكبير الراحل ( عوني كرومي ) عام 1945 في مدينة الموصل ورحل عن عالمه ( خشبة المسرح ) عام 2006 ، بعدما نقش اسمه الجليل بأحرفٍ نيرة ، طرزتها فوق سجادة المسرح العراقي الفخمة ، أنامل ذات الخشبة التي اشتق من عبقها واريجها ملامحه العبقرية الفطنة والتي كانت حاضنة مخصبه الابداعي الدائم ، وتنفس شذاها على مدى اربعة عقود ونيف قضى جلها بالمتابعة ، والاستقراء ، والتحليل ، والتأمل في مجاهل الجمال اللا متناهي .

تخرج الراحل من معهد الفنون الجملية / بغداد عام 1965 ، نال شهادة البكلوريوس من أكاديمية الفنون الجملية / بغداد عام 1969 ، حصل على الماجستير / علوم مسرحية / جامعة ( همبولدت ) / برلين / المانيا عام 1972 ، نال شهادة الدكتوراه من معهد العلوم المسرحية جامعة ( همبولدت ) / برلين / المانيا عام 1967 ، شارك في العديد من الحلقات الدراسية العربية والعالمية بين الاعوام 2002 – 1972  .

دَرسَ في العديد من الجامعات والكليات والمعاهد الفنية المتخصصة العراقية والعربية والألمانية بين الاعوام 1977- 2002 ، تخرج من بين خلجات ملامحه العبقرية ، العديد من الاسماء الكبيرة التي أصبحت قامات عالية في المسرح العراقي والعربي والعالمي .

أخرج الراحل الكبير ( عوني كرومي ) أكثر من سبعين عملا مسرحيا ، يأتي على رأسها ، كاليكولا ، وغاليلو غاليليه ، وكريولان ، انتيكونا ، وترنيمة الكرسي الهزاز ، التي حصدت العديد من الجوائز ، ومأساة تموز ، والإنسان الطيب ، صراخ الصمت الأخرس ، الغائب ، كشخة ونفخة ، وفطور الساعة الثامنة ، في منطقة الخطر ، القاتل نعم القاتل لا ، وتداخلات الفرح والحزن ، وفوق رصيف الغضب ، وحكاية لاطفالنا الأعزاء ، بير وشناشيل ، المحفظة ، المسيح يصلب من جديد ، والصمت والذئاب ، عند الصمت ، وفي المحطة ، الشريط الاخير ، المساء الاخير ، الطائر الازرق ، وفاطمة ، والسيد والعبد .
 
نال الراحل الكبير ( عوني كرومي ) العديد من الجوائز اللعالمية والعربية والعراقية ، منها في مهرجان بغداد المسرحي ، مهرجان القاهرة المسرحي ، مهرجان قرطاج المسرحي ، مهرجان برلين المسرحي ، حصل على لقب ( وسيط الثقافات ) من مركز ( بريشت ) في برلين ، توفي في مدينة برلين بالمانيا ، في فجيعة صباح يوم 28 / مايو / 2006 .
 
لنرفع أغطية الرأس التي نعتمرها ، ونحن في جلال هذا الألق العراقي المسرحي المتفرد ، ونخطو خطوات واثقة ، يملأها الزهو ، والكبرياء ، والفخر ، ونحو مقدمون لإلقاء تحيتنا الأخيرة  المتأخرة ، على روحة الطاهرة الجليلة ، ولننحني جميعا ً ، إجلالا ً في حضرة  جثمان هذا الفنان المخرج المسرحي المجدد المبدع الكبير الخلاق (عوني كرومي) المسجى بألقٍ مبهر ، وعلو وشموخ ، داخل ذاكرة المسرح العراقي الجليل العتيد .





رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سعدي عبد الكريـم


 

بحث :

Search Help


دليل الفنانيين التشكيليين

موسوعة الامثال العراقيه

انضموا الى قائمتنا البريدية

ألأسم:

البريد ألألكتروني:



 

 

 

 

Copyright © 1997- IraqiArt.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
ENANA.COM