هذه السيدة ابنة محلة كلواذا التي صارت فيما بعد محلة الجادرية والكرادة الشرقية .. تثير صورتها التي رسمها رسام ايطالي في بداية القرن السابع عشر وثيقة مهمة تستدعي القراءة والبحث منذ اقترنت بالرحالة الأيطالي ديللافاليه - 1586 ..
لقد كلفني الصديق الروائي والكاتب سليم مطر بالكتابة للعدد المزدوج من مجلة ميسوبتيميا الصادر عام 2004 المخصص للحديث عن المرأة في وادي الرافدين ، واتفقنا ان اكتب في اكثر من موضوع عن نساء العراق في فترات مختلفة وشهيداته خلال القرن الثالث الميلادي .. وعن تجاربي الشخصية في العيش او التعرف .. كما قمت بتلخيص كتاب رحلة ديللافليه الذي ترجمه وحققه الأب د. بطرس حداد ، لما ينطوي عليه من اهمية تاريخية خلال اخصب فترات الأستشراق .. مثلما ينطوي على حكاية عاطفية غريبة تتصل بأمرأه ورجل لعب الحدس والمصادفة دورهما في احداث حكايتهما .. وظهر الموضوع بتوقيع- تلخيص ميسوبتيميا بغداد- فيما ظهر اسمي على موضوع آخر حول نساء في حياتي ..
ومنذ ذلك الوقت وانا اتامل صورة السيدة واراجع الحقائق الفنية والتاريخية لثقافتنا الأجتماعية .. فقد غادر الرحالة الأيطالي بلاده اثر خيبة عاطفية مع فتاة ايطالية ، قرر بعدها الرحيل بعيدا و مغادرة البلاد لأكتشاف عالم آخر .. حيث رافقه رسام ايطالي .. ومساعدون وحرّاس للذهاب الى الشرق مثلما كان يفعل المستشرقون والرحالة والشعراء لأكتشاف عالم نقي آخر ..
*
يصف ديللافاليه المرأة التي احبها وارتبط بها فيما بعد ويقول (انها من (بلاد اشور) عمرها ثمانية عشر ربيعا تتحلى بصفات حميدة ومواهب طبيعية جمالها معقول حين يقارن بجمال اهل البلاد. لونها حار فهي سمراء شعرها اسود اجفانها طويلة ظلال العينين توحي بالوقار. تتحرك بحشمة وجلال. جسمها متكامل معتدلة، سريعة الخطوات، نبيلة في مشيتها حلوة في حديثها جميلة في ضحكتها. اسنانها صغيرة بيضاء. انها بكلمة واحدة تتصف بكل ما كنت اتتمناه في المراة. اسمها (معاني) ترعرعت في (بغداد) منذ نعومة اظفارها. واسم عائلتها (جويريدة). وكان ابناء عائلتها من اكابر القوم. امها (ارمنية) ووالدها من (السريان المشارقة نسطوري) تتبعه زوجته وعياله باداء طقوس الديانة. اما سيدتي (معاني) فتعتبر العربية لغتها الطبيعية، لكنها تتكلم التركية جيدا وهذا يجعلنا اكثر تفاهما حين ازورهم ..) لقد تكلف الرسام الذي يرافق الرحالة برسم الأعشاب والطبيعة والأزياء والنقوش التي في اسطح المنازل والغرف في بغداد كما ر سم بورتريت لديللافاليه .. ولم يكمل تماما بورتريت معاني حيث تركها دون اللمسات الأخيرة وعاد الى روما تاركا الرحالة في شأن آخر ..
ولد بيترو ديللا فاليه في روما عام 1586 من عائلة ايطالية رومانية عريقة ماتزال تحتفظ الى اليوم بشارع يحمل اسمها في قلب العاصمة روما وكنيسة فخمة ماتزال شاخصة وقد شيدها احد افراد العائلة ، كما يقول الاب ( د. بطرس حداد) الذي اهتم بترجمة وتحقيق العديد من اعمال الرحالة والمبشرين والمستشرقين الذين زاروا الشرق البعيد والعراق بشكل خاص.
اهتم هذا الرحالة بالموسيقى والشعر والعلوم واتقن فنون الفروسية كجزء من متطلبات الانتماء الطبقي الارستقراطي . وعندما فتح عينيه في شبابه على فتاة من طبقته احبها حبا كبيرا . ثم صارحها فصدّته ولم تبادله الحب، مما شكل لديه صدمة كبيرة اثرت على مجرى حياته . لذلك اختار الرحيل والتجوال في الشرق القصي بحثا عن الحقيقة الكبرى كما قال في احدى رسائله. في 8 حزيران 1614م سافر الى اسطنبول وهناك عاش سنوات من الجد والبحث حتى تعلم اللغة التركية وكتب في نحوها واستعمالاتها والف كتابا. ثم قرر الرحيل شرقا لكن الظروف الامنية الصعبة جعلته يتحول عن التوجه الى بلاد فارس ليمضي في الطريق الى مصر و القدس ثم توجه بعدها الى سوريا ثم العراق. فيما هو في سوريا يهم بالرحيل الى العراق التقى (اليساندرو اليساندري) صديقه الرحالة الايطالي الذي كان قد عاد من بغداد للتو. واستفسرمنه (ديللا فاليه) عن احوال العراق ، فحدثه الرجل وشرح له الخواص العامة للبلاد واهلها. اثناء الحديث تطرق الى الطبيعه الأجتماعية البغدادية المضيافة وكيف تعرف الى عائلة بغدادية مرموقة يشتغل رئيسها في التجارة الخارجية وهي (عائلة جويريدة) البغدادية المعروفة. ثم تطرق للحديث عن طبيعة العائلة ونماذج من افرادها وبخاصة احدى بنات العائلة واسمها( معاني جويريدة ) لما تتمتع به من شخصية متميزة وجمال وثقافة واتقان للغتين العربية والتركية. حينها وبصورة غريبة ولا واعية دق قلب (ديللا فاليه) وسجل في يومياته : (( لقد تغير وقع كلام اليسندرو في نفسي فاخذ يتسرب الى اعماقي ويحتل تفكيري بعد ان اعاد وكرر الوصف وقلت في نفسي حتى لو لم يكن لدي غاية لاسفاري فهذه الفتاة كافية لارحل الى بغداد والمكوث هناك لتحقيق هذا الغرض وهكذا تحول الشوق بعد قليل الى حب... كنت انصت اليه في اول الامر لتمضية الوقت لاغير، ثم بالتدريج تولد في نفسي شوق كبير للتعرف الى هذه الفتاة، وتحول بعدها الشوق الى حب .. وفي 18 ايلول 1616 مضت الرحلة الى بغداد طويله مليئة بالتفصيل والشرح وحين وصلها وجد ان المدينة تقع على دجلة وتنقسم الى قسمين بناؤها من الطابوق القديم والبيوت واطئة تفاديا للحر الشديد وهناك جوامع كثيرة فيما يسكن الوالي في بناء كبير يسمى القلعة يطل على النهر في نهاية المدينة عند السور. وهناك اسواق تجارية عامرة وبساتين مثمرة بين البيوت تثمر فاكهة وخضارا. فيما يتعب البغداديون بسحب المياه من النهر بطريقة الكرود وليس النواعير كما في مصر. ثم يرحل الى بابل فيصف مدن المحمودية والرضوانية وخان النصف والحلة واثار بابل ثم في طريق العودة يصف سلوقية وطيسفون ومنطقة سلمان باك وايوان كسرى، ثو يصف حياة البدو باعجاب شديد، وهو يرى الخيام والرعاة والنساء وازياءهم وطريقة عيشهم وطعامهم وحقول القطن والخضار عند حدود النهر . حتى يعود ليستقر في بغداد يرافقه حراسه الخاصين ومرافقوه والرسام الذي انتدبه ليرسم الاعشاب والوجوه والمواقع والمدن والمناظر.
*
في بغداد راحت مشاعره تفور وصبره ينفد وكان يعد الساعات ليصل ويرى تلك الفتاة التي ملكت حواسه. يبدو ان المصادفة قد لعبت دورها في صناعة الحدث حيث عرف السيد (حبيب جان) والد (معاني) بقدوم الرحالة وانه صديق(اليسندرو اليسندري) فاستقبله واكرمه واختار له سكنا يحتوي من الاثاث والافرشه ما يحتاجه اي اوربي ، من طاولة الكتابة والكراسي وغيرها. ثم يصف ذلك المنزل وسقف الغرفة المرسوم بريشة فنان حيث يطلب من مرافقه الرسام تصوير ذلك التزويق ونقله معهم الى روما. ولكن ديللافاليه استمر في البحث عن اخبار فتاة حلمه من خلال معارفه . فهو في مذكراته يتحدث عن توهج مشاعره حين يصف له مساعدوه تلك الفتاة وسحرها وجمالها عندما ارسلهم لتقديم الهدايا لعائلة السيد (حبيب جان جويريدة) والد (معاني) . و اخيرا صمم (ديللا فاليه) على زيارة العائلة والتعرف اليهم وتقديم الشكر و العرفان لرب الاسرة لجهوده في ضيافته وتكريمه. هناك تعرف الى العائلة كما تعرف عن قرب الى (معاني) التي ضيّفته بفاكهه اصبحت فيما بعد : ((بذرة لثمار في قلبي)) كما كتب يصفها في احدى رسائله.. ويمضي الرحالة في الوصف العام للبلاد والازياء والناس لكنه لايغفل عاطفته تجاه تلك الفتاة البغدادية التي اسرته وجعلت جرحه العاطفي الاول يلتئم، فقد كان غير قادر على مقاومة رغبة الامتلاك وكلما كثرت زياراته والدعوات المتبادلة بينه وبين هذه العائلة ازداد شغفا وتعلقا بها حتى حانت لحظة القراريقول:(( التجأت اولا الى امها لأن لديها عطفا كبيرا علي، ففي احد الايام ركعت امامها واخذت يدها فقبلتها واقسمت اني لن انهض مالم تعدني باعطائي ابنتها. شدهت المراة من عملي لكنها ضحكت فيما بعد وكانها تشير الى امكانية تلبية رغبتي)). لكن الامر لم ينته بعد فقد كان على العاشق المدلّه ان يتحدث الى والدها فهو بالرغم من قناعته وثقته بالرحالة وبمكانته من خلال عشرات الرسائل والتزكيات والتوصيات الدبلوماسية التي اطلعت عليها العائلة فانه مطلوب اقتناع والد الفتاة ورغم ذلك فقد تردد الاب كثيرا نظرا لتقدمه في السن ولان (معاني) هي كبرى بناته الخمس ويخاف ان تغادر الى البلاد البعيدة ويقول: ((لقد تحير الاب كثيرا وخشي ان يخطيء في قراره فقبلني ورفضني اكثر من مرة لكنه وافق على مضض اخيرا ))وبسرعة يهرع الى شراء متطلبات المهر والزواج ويغدق العطاء على عروسه واختها التي كانت تتهيا للزواج ايضا وذلك توددا وقربا ((لقد كانت حمالة عروستي رائعة جدا احتوت على اقمشة حريرية مطرزة بنقوش تركية وبخيوط من الذهب واللاليء ومختلف الاحجار الكريمة، فلقد كنت اريد اظهار كرمي الروماني لهؤلاء الناس، فقد ارسلت اشياء كثيرة حتى الاحذية والالبسة لاني اعددت مافيه الكفاية)).ويتم الزواج البغدادي بين (ديللافاليه) و(معاني جويريدة) في حفل بغدادي لم ير مثله هذا النبيل الايطالي في حياته اوخلال رحلاته. وكان يجد في هذه الزوجة مكملا لشخصه في الحياة وفي الجهد العلمي وفي تعلم اللغات واصول الافعال والاعشاب وغيرها فيكتب :(( انه لامر غريب حقا لعله لم يحدث من قبل ابدا بين رجل وزوجته ان لايعرف الواحد لغة الاخر وبالرغم من ذلك فهما يتكلمان دائما ويتفاهمان جيدا بلغة ثالثة(التركية) ليست لغة احدهما. فانا لم اتقدم في تعلم اللغة العربية رغم وجود الست (معاني) معي كما انها لم تتعلم اللغة الايطالية رغم ضرورتها واهميتها وحين تمكن الرحالة من اقناع زوجته ان تصاحبه في رحلته الى بلاد فارس. يقول:(( في الطريق من بغداد الى هنا ونحن نقطع الفيافي والجبال وقد غمرنا صمت عميق. وفي الليالي الحالكة وانا بقرب زوجتي الحبيبة باغتني ملاك الشعر واذا بالشعر يتدفق تدفقا عجيبا من مخيلتي فاردت الاقتداء بالاقدمين فاضع قصيدة اكراما لزوجتي اصف فيها رحلتي واعبر فيها عن حبي ووضعت لهذه القصيدة الغزلية اسما هو ( اكليل جويريدة) نسبة الى اسرة معاني )). لقد شرع الرسام الذي يصطحبه في رحلته يرسم صورة لمعاني فيما هي مشغولة باهتمامها بانجاب الاطفال. وكانت تستعجل قدر الانجاب الذي تاخر فكانت تتعاطى اعشابا وعطاريات ، فيما كان ينصحها ان تتحاشى هذه الخيارات وهي مهمومة بحلم الحمل والانجاب. وحين ياخذه الحنين يقرر الرحالة العودة الى بلاده صحبة زوجته العراقية البغدادية التي احب. عندما كانا مايزالان في هرمز وفي شيراز اخبرته (معاني) بالخبر السار: ((انني احمل جنينا في احشائي هو ثمرة حبنا بعد سنوات من الانتظار كان ذلك يوم 27 تموز 1621)). ووسط ذلك الفرح والابتهاج بالخبر تصاب زوجته معاني بالحمى في مدينة ( مينا )، وترتفع حرارتها بشكل يؤدي الى اسقاطها الجنين. وتظل حرارتها في صعود: (( حتى انهكت قواها ولم تجد العقاقير المتوفرة نفعا فاسلمت روحها يوم 30 كانون الاول 1621 وعمرها ثلاثة وعشرون عاما)).
*
لكن الرحالة العاشق، يرفض التخلي عن زوجته حتى بعد موتها. فقد اتخذا قرارا جنونيا (( لقد قررت ان لا اواريها الثرى في هذه البلاد بل ساحمل جثمانها الى مقبرة ابائي واجدادي في كنيسة اراجيلي في روما في ظلال الكمبيدولو التل العجيب)). فقام بتحنيطها بوضع كمية كبيرة من الكافور الهندي في داخل جثمانها واوصى على صندوق من خشب الصندل المحكم سده بمسامير حديدية كبيرة حفظ في داخله جثمان زوجته( معاني جويريدة). وخلال ترحال جنوني يثير العجب ظل يصطحب الجثمان مدة اربعة اعوام، من بلاد فارس الى الهند والبحر العربي والعراق وسوريا حتى اوصلها الى روما وانزلها بيديه في ضريح الاسرة في اجمل كنائس روما وقداصبح قصر( ديللافاليه) مزارا يجد فيه الزوار نوادر التحف والازياء والمومياء المصرية والمخطوطات الشرقية واللوحات والاثار التي حملها من رحلته الى الشرق ووضعها جوار قبر زوجته العراقية (معاني جويريدة) .
*
للمزيد اقرأ : رحلة ديللافالية – ترجمة وتحقيق الأب بطرس حداد – دار الشؤون الثقافية بغداد
مجلة ميسوبتيميا – العدد المزدوج 2- 3 : 2004 – رئيس التحرير : سليم مطر