إذا كان ما حدث في العراق، كما يقول سهيل سامي نادر»يحتاج إلى مرثية، إلى بكاء خاو من ذلك البكاء الذي خبره الشاعر الألماني ريلكة «، وهو كذلك فعلا، فان معرض الصور الشخصي للفنان العراقي زياد تركي في جاليري دار الأندى (عمان) (هجرة نحو الخراب).. كان إعادة فعل الخلق باعتباره وجودا تقنيا ليس في طبيعة الموضوعات التي مازالت مكرسة لـ»عوائل كانت هائمة فظهرت فجأة من فجاج البؤس العراقي القديم. بوابة مخلوعة منهوبة وقطعة بائسة ألصقت على حائط جانبي كتب عليها بخط تلميذ بالابتدائية (هنا يسكن عوائل وليس لصوص). « (سهيل سامي نادر)، وإنما في طبيعة الصورة الفوتوغرافية التي يقدمها زياد تركي لتتعين في الزمان والمكان معا، صورا غائرة في الزمن من خلال الغور في فعل ذلك الزمان بالمكان فبعد ان «كان ينظر إلى المأساة بالأبيض والأسود فقط؛ ها هو الآن، يدخل اللون إلى الصورة»
ليس فقط ليزيد من الإحساس بهول الفاجعة، كما يقول سعد هادي، وإنما ليرينا اثر الزمن في جوهر الواقعة المكانية، فسطوحه التي ملأها الصدأ لا يمكن الإحساس بها بالأبيض والأسود وتحتاج إلى لون الأكسدة لمنح الصورة ملمسا صدئا، فكان موضوع الصورة، او تأثيرها الدرامي، يتراجع إلى خلفية الصورة، إلى حيطان الموضوع وما تركه الزمن والعابرون عليها.
كان التلصص هنا اقتناصا للقطة دونما هندسة مسبقة، تلصص يعيد توكيد ان الكاميرا مازالت صندوقا اسود بثقب (يتلصص) على الخارج، ثقب مملوء برغبة بصرية عارمة، ربما هو حب في الاطلاع، او هو فضول معرفي او فضول جنسي، فتكون تلك الرؤية من خلال الثقوب جزءا من (منظومة) لمراقبة الخارج، او هي جزء مما يسميه فوكو «إمبراطورية النظرة المحدقة»، نظرة تهدف، في النهاية، إلى تأسيس نظرة مركزية، وتستقبلها عين مركزية، غير مرئية، تحاول في النهاية إلى الوصول او تلمس طريقها نحو اللامرئي من خلال اختراق المشهد عبر زاوية نظر استثنائية كتلك الزوايا التي يختارها المصور الفوتوغرافي فؤاد شاكر حينما يحاول الإمساك بموضوعه من خلال زاوية الالتقاط الاستثنائية، زاوية يتم اختيارها لتنتج نقطة تلاش تمثل بؤرة الموضوع اللامة، وفي ذلك متعة تعادل متعة استراق النظر من (ثقب) (=زاوية التقاط) عصية على الاكتشاف، بينما يفارق المصور المغربي زكريا جحيشة فؤاد شاكر تماما، فهو يختار زاوية التقاط مكشوفة ومفتوحة تقابل البطل وجها لوجه، بعد ان يدثر ذلك الوجه المكشوف، وأية لقطة يقتنصها بدثار اللون الأسود المظلم الذي لا يكشف إلا جزءا طفيفا من المشهد.
ان فعل التخفي، تخفي العين الراصدة، ليست عملية أحادية الجانب يمارسها المصور فقط، بل هي لعبة ثنائية يتجاذبها طرفا اللقطة: المصور والهدف اللذان يمارسان لعبة الحجب والإظهار، ففي تجربة المصور الفوتوغرافي زياد تركي من الصعب ان يقرر المتلقي من كان الأكثر فاعلية في لعبة الإخفاء والإظهار، الكائن أم المبدع، فحينما يسترق زياد تركي النظر يقنن (البطل) الحدود المسموح بها للنشر، وبذلك يمارس كلاهما فعل رقابة تقنين الحدود، وتقنين القيم المسموح باطلاع الآخرين عليها من خلال زاوية كشف تسترق مدى الكشف المسموح به من قبل الكائن، ذلك ما تبنته المصورة الفوتوغرافية تانيا جراماتيكوفا التي وصفتُ تجربتها بأنها «أجساد، إذا حاولت ان تسترها فليس أكثر من ستر يكشف عما تحته ليكون كأستار النص التي تريد ان تقول ما تحذفه، وبذلك يكون الأمر الحاسم في الصورة ليس ما يظهر بل ما يكشف عما يختفي، فيتجسد الجسد بطريقة مواربة تحمل الفكرة ونقيضها في وحدة غريبة ومقلقة فيما يخص تعاملها مع الجسد الإنساني؛ حتى أنها تتخذ الموديل ذاته لتكشف عنه حجبه مرة، ولتدثره بتلك الحجب تارة أخرى، باحتفال يكرس الجسد، في بعده الشيئي وفي ماديته في الأقل.. موطنا للدلالة»، وهي الآلية ذاتها التي تعاملت بها المصورة مع صور الأزقة وسطوح المحيط، «فهي تتخذ الجدران، والأزقة، وموجودات المحيط باعتبارها نصوصا مكتظة بمعنى مخبأ وذي أفق محيطي، فكانت تصور الأزقة الضيقة ذات الجدران العتيقة باعتبارها عينة تصور الجزء الظاهر من جبل الجليد: مدينة غاطسة ومغطاة بقدر لا حدود له من عري المعاني الخبيئة التي أوحت بها المصورة دونما إفصاح»، بينما يمارس زياد تركي فعل الإخفاء والإظهار مع السطوح، فمن خلال زاوية غير مرئية يختلس زياد تركي نظرته المحدقة في جوهر المشهد، نظرة متلصصة وخبيئة كليا، فتضع الواقع، والاهم أنها تضع سحنة ذلك الواقع تحت معاينة دائمة او ربما الأدق القول أنها مراقبة دائمة.
يتيح زياد تركي نمطين من المقاربات لمنجزه: مقاربة تعنى بالإدراك البصري الكلي لأشكال الصورة من خلال موضوعها، وهو ما ينشغل به معظم دارسيه، وهو أيضا ما تكتفي به الكثرة الكاثرة من المصورين الفوتوغرافيين، حيث الاهتمام بالملاحظة الخارجية للأشكال ومظاهرها، والاهتمام فيها بالمراقبة الخارجية دون الوعي بالتفاصيل، وبينما يكتفي البعض بذلك يتيح زياد تركي إمكانية مقاربة لمسية haptic لأعماله عندما يضع المتلقي في علاقة شيئية مادية ولمسية مع العالم الخارجي من خلال الصورة، وإسقاط الذات باعتبارها الممثل الحقيقي للصورة، فيستمد ذلك المتلقي ذاته موضوعا، وهي نمط من التعبيرية في الفوتوغراف، وهو المقترب الذي كان يشدنا إلى فوتوغرافيات زياد تركي حينما تتحول السحنة الى سجل تاريخ: للمكان، والبشر، وجذوع الشجر والنخيل، وللسطوح التي خلف الزمن بصمة مكوثه الطويل عليها، فتكون تلك الشريحة عينة للوجود المادي بأسره، شريحة من الوجود تنطق كأثر بابلغ خطاب...، انه خطاب أسس على امتزاج بين المشاهد والعالم، بين الرائي والمرئي، وبذلك يتحقق خطاب الفن الذي يفارق آليات خطاب العلم، ففيما يكتفي الأخير بالنظر إلى الأشياء من أعلى، يغمر التصويرُ المشاهدَ داخل عالم الرؤية...، وهو ما يفعله زياد تركي الذي ينغمر، ويغمر متلقيه في عملية تحسس للوجود البصري، والانغمار بخرائط السطوح الصدئة والوجوه المتغضنة، والانغمار بالسحنة الغارقة في الظلام حينا وفي الضوء حينا آخر...
|