المحور رقم (1)
الجزء الثاني
لكن لابد من الاشارة ايضا الى ان هذه الحقبة من بداية تطور اجهزة الحفظ والنشر والتسجيل .. تعتبر في نفس الوقت حقبة بداية تزعزع العلائق التي تربط الناس مباشرة بالمأثور الشعبي الاصيل .. ومنذ ذلك الوقت بدأت حواجز الذوق في سماع الموسيقى والغناء تزعزع ثوابت التقاليد الادائية التراثية خضوعا لمتغيرات وتحولات العصر في تلحين وكتابة واداء الالحان الجديدة المستقاة اصلا من التراث الغناسيقي .. مما جعل التذوق التقليدي في سماع الغناء والموسيقى التراثية ينحسر ليتكون بعدئذ نمط جديد من التذوق لدى جمهور شاعت تسميته بجمهور ( النخبة ) ورغم ان هذا الجمهور تشكل من كل فئات الشعب الاجتماعية ، الا اننا لا نطمح على الاطلاق ان يبقى الاداء المقامي اسير هذه النخبة من المتذوقين في المجتمع ، فلابد اذن ان نعمل بكل جهد ومثابرة الى جعل الاداء المقامي ملكا لاذواق كل فئات الشعب الجمالية وليس الى نخبة ذوقية منه ، وعليه فان هذا الوضع يفرض علينا اللحاق سريعا سريعا بركب الحضارة وتطوراتها ومواكبة التغيرات والتحولات العظيمة التي نعيشها في عصرنا الراهن والتعامل بشكل منسجم مع روح العصر لكي نستطيع ان نصل بمستوى تعابير الاداء الغنائي التراثي الى محاكاة المتلقي الحالي … وطبيعي ان هذا الموضوع يتطلب الكثير من المستلزمات الثقافية والذوقية لتضييق الفجوة التي اصبحت عميقة بمرور السنين بين التعابير الادائية التراثية وبين تعابير الاداء المطلوبة في عصرنا الراهن في عنصرها الجمالي والذوقي وقد استثني من كل المسيرة الادائية المقامية خلال هذا القرن المطرب الحضاري ناظم الغزالي الذي تمتع بفن راق في الاداء اوصل به المقام الى اسماع كل العراقيين بل كل العرب في وطننا العربي فكان سفيرا للغناء العراقي بحق ، حيث عبر عن مرحلته وما تلاها اصدق تعبير ..
ومن ناحية اخرى لم يكن الحكم على جودة الاعمال الغنائية والموسيقية في تلك الحقبة الزمنية ، من زاوية تطور الناحية الفنية وقيمها العلمية في اداء هذه الاعمال ، بل كانت النظرة سائدة بالاهتمام الزائد بقواعد التقليدية الغناسيقية المحلية التي يؤدى بها المقام العراقي ، حيث وصل الامر الى حد ان المؤدي الذي يطبق الاصول التقليدية بشكل جيد يحسب في خانة المؤدين الجيدين حتى لو وصل الامر الى تواضع موهبته الصوتية ، بل حتى لو لم يكن ثمة مستمع اليه …!!!
وفي النصف الاول من القرن العشرين بدأت هذه النظرة التقويمية الى الاعمال الفنية تضمحل شيئا فشيئا بسبب تطور المستوى الثقافي والامكانيات المتاحة لهذا التطور حتى اصبحت النظرة الى جودة الاعمال الفنية عموما والغناسيقية خصوصا تجنح نحو الاهتمام بالنواحي الفنية والعلمية والذوقية للاعمال الفنية بوجه عام .. ذلك ان التغيرات الاجتماعية والاقتصادية العميقة كان لها الاثر الفعال في ذلك .. وكان المنعطف الكبير تأسيس معهد الفنون الجميلة في ثلاثينيات هذا القرن ، حيث شمل عدة فنون اخرى مع فنون الموسيقى ، اذ كان المسرح والتمثيل والسينما والرسم والخط ..الخ ولم يمض وقت طويل حتى ظهر فنانون كبار ، بعضهم اكمل دراسته في الخارج ، وبدأ المستوى الثقافي للفنون يتطور بفضل المعهد وتخريجه طلبة موهوبين .. ولا شك ان هؤلاء هم في الحقيقة بداية النهضة الحديثة للثقافة الاكاديمية للفن الغناسيقي والفنون الاخرى .. وسوف نرى ان هذا التطور مع تقدم الزمن قد اظهر لنا فنانين كبارا استطاعوا بامكانياتهم ومواهبهم وجهدهم تجاوز المحلية والانطلاق الى الآفاق العالمية في الفن الغناسيقي وباقي الفنون الاخرى .. ولعل اعظم انجاز للموسيقى العراقية هو عودة التاريخ من جديد في ظهور المدرسة العراقية والعربية الحديثة في العزف المنفرد على آلة العود وكان ذلك على يد العازف الشهير الشريف محي الدين حيدر، هذه المدرسة العزفية التي سادت الوطن العربي ولا تزال في ذروتها كأول ثمرة كبيرة ومفيدة من ثمرات النهضة الموسيقية الحديثة في عراقنا العظيم .
فكان معهد الفنون الجميلة الذي خرج الجيل الاول من رواد العزف على آلة العود وهو الجيل الذي ارسى دعائم هذه المدرسة الجديدة في اساليب عزفها وتعبيراتها والمستوى التكنيكي الذي وصل اليه العزف على آلة العود … هذا الجيل المؤسس كان قد استوعب كل الخزين التراثي لموسيقى البلد ومن ثم استقى الحانه وعزفه واسلوبه منه ، وانطلق الى الآفاق الخارجية متأثرا بموسيقات الشعوب الاخرى وتجاربها وثقافاتها المختلفة معبرا عن روح العصر الذي يعيشه متجاوزا بذلك المحلية الصارمة . ويمكننا ان نشير الى فضل بعض الاسماء اللامعة في هذا المجال للجيل الاول فكان الشريف محي الدين حيدر الأب الروحي لتلاميذه ومنهم جميل بشيروشقيقه منير بشيروسلمان شكروغانم حدادثم تلاميذهم علي الامامومعتز محمد صالح…الخ وهكذا استمرت هذه المدرسة تزخر بالتلاميذ الجيدين الذين اخذوا مكانهم اللائق في مسيرة العزف المنفرد على آلة العود من امثال سالم عبد الكريموصفوة محمد عليوخالد محمد عليونصير شمةوآخرين تكثر وتطول بنا قائمة اسمائهم .
ولاشك ان قضية البعث الثقافي الموسيقي هذه ، في العراق من جديد ، لا يمكن ان نلخصها هنا بسهولة ، ذلك لعمقها وتأثيرها التاريخي في مسيرة الغناء والموسيقى في بلدنا الغالي … بيد انه من المهم ان نتطرق الى تأسيس معهد الفنون الجميلة عام 1936 لكونه البداية الحقيقية لدراسة الموسيقى بصورة اكاديمية رصينة ، ورغم اننا تحدثنا عنه بعض الشيء لكننا سوف نحتاج الى تذكّره دائما ، لأن هذا التطور متى حدد ، امكن اعتباره مرجعا مستمرا لثقافتنا الغناسيقية ، وكذلك ايضا لأن هذا المنعطف التاريخي هو ايضا بداية تطور الحركة الجمالية الحديثة المستمرة النمو ، خاصة وان الاذاعة العراقية تزامن تأسيسها مع تأسيس المعهد ، فكان المذياع فيصلا حاسما في ايصال الغناء والموسيقى لكل الشعب .. وبالتأكيد فان هذه التحولات الثقافية سوف تؤشر بما سيتحقق من تطور في الغناء والموسيقى .. ومعلوم لدينا جميعا ان هناك دائما طرفان في التأثير والمؤثرات يتعرض له الغناء والموسيقى ، فالاول هو التأثير الخارجي أي خارج المحلية والثاني هو التأثير الداخلي أي تفاعل الثقافة الغناسيقية فيما بينها خارجيا وداخليا بحيوية وسعة افق لتحفظ لنا غناءنا وموسيقانا ومشروعا للتجديد مستقى من التراث.
هذه الميول التي ظهرت في العقود الاولى من القرن العشرين التي بدأت تزعزع وتحرر الهيكل الادائي الصارم في اصول المقامات العراقية ومن ثم تقارب الفنون فيما بينها وتلاقحها ، كان اعلانا واضحا بالاهتمام بالعمليات الاستاتيكيةللاداء التي اصبحت اكثر ظهورا واتساعاً مع توغل الزمن في القرن العشرين . ان هذا التاريخ كان سجلا للانفتاح على العالم الخارجي لنتأثر ونؤثر بالآخرين .
ان معهد الفنون الجميلة كان هو المدرسة الاولى التي تمرن فيها فنانون عديدون ، فقد تعلم فيها شباب من بغداد العاصمة وشباب من المحافظات حتى وصل الامر بعد مرور الزمن الى فتح فروع اخرى للمعهد في بعض المحافظات ، ثم انطلق اولئك الشباب يرفدون موسيقانا بالعلم والمعرفة والانجازات والنتاجات الادائية الجمالية ، وظل المعهد كمركز علمي للموسيقى والفنون الاخرى وحيدا في بغداد ، الى ان اسست مرافق علمي اخرى زخرت بالنشاطات .. منها الفرقة السمفونية الوطنية العراقية التي تعتبر اكبر انفتاح واطلاع على معالم الموسيقى العالمية وكان ذلك اواخر الاربعينيات ومع مرور الزمن أُسست اكاديمية الفنون الجميلة عام 1969 ثم أُسست مدرسة الموسيقى والباليه في نفس العام التي تعتبر هي الاخرى انفتاحا راقيا على موسيقى وباليه العالم .. وتبع ذلك تأسيس معهد الدراسات النغمية العراقي عام 1970 الذي اخذ على عاتقه الاهتمام بتدريس المقام العراقي بشكل علمي فني واخيرا فتح قسم الموسيقى في اكاديمية الفنون الجميلة 1987 ، اضافة الى ان استمرار انتشار المعاهد الاهلية لتعليم الموسيقى التي كانت موجودة قبل فترة تأسيس المعاهد والمؤسسات الرسمية حيث كانت الرافد المباشر للثقافة الموسيقية زمنذاك ..
على كل حال استطاع المقام العراقي ان يعدد اشكاله ، وان يكون حاضراً في كل مكان من حياتنا اليومية ، سواء كانت هذه المرونة نتيجة لمكانته الدائمة ام احد اسبابها . انها تاتي للقاء السامع ، وقد كان الاغنياء خلال العهود الماضية هم وحدهم الذين يستطيعون سماع الغناء بالحالة التي يريدون ، وكان جمهور المغنيين محدودا بسبب سوء الحالة الاقتصادية التي لا تتيح الا بعض مستلزمات المعيشة الضرورية ، عندها برزت مسارح المقاهي الشعبية ، لعدم توفر الضياء اثناء الليل واستحالة السماع في بيوت مكتضة بالسكان وبسبب قلة المسارح الرسمية التي يغنى من خلالها المقام فقد كانت معظم الحفلات المقامية تقام في وقت العصر وعند غروب الشمس ، من الذي كان يسمع أذن؟ ومن كان يريد السماع ..!؟
|