فكرة مختصرة عن الغناسيقى العراقية في القرن العشرين
في القرن العشرين ، إتسع جمهور المقام العراقي ، وفي الوقت نفسه نفذ التعليم المقامي والموسيقي الى أوساط إجتماعية بقيت حتى هذا الحين بعيدة عن الثقافة الادائية للمقام العراقي ، وقد أتاح إختراع أجهزة الحفظ والتسجيل إستنساخ عدد كبير من النسخ الغناسيقية الصوتية وأدى ذلك الى خفض ثمنها ، كما أدى إنتشار الصحف الى نشوء الحديث عن كل ما يتعلق بالغناء العراقي والعربي ، وعلى الأخص المقام العراقي بشكل واسع جداً حتى أيامنا هذه ، وصار كبار الموزعين للشريط الصوتي أصحاب شركات كبيرة يوزعون ويروجون للغناء لإيصاله بالسرعة الفائقة الى أسماع الناس جميعاً ، وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين ، إنتشر شريط الكاسيت بشكل واسع ومذهل بميزته العملية عن شريط التيب (البكرة) .. ثم بدأ استعمال الليزر واستعمال اسطوانات الـ CD وهذا يعني .. كنتيجة حتمية انه اذا كانت مجموعة قليلة من الناس تستمع الى المقام العراقي ، أصبحوا الآن جماهير غفيرة بفضل هذا الانتشار السريع للأجهزة الصوتية ..
من المغنين العراقيين الذين إنتشرت لهم تسجيلات صوتية وعبرت شهرتهم الآفاق حتى خارج الحدود كان الرائد محمد القبانجي منذ العقود الاولى للقرن العشرين ثم تبعه آخرون في الشهرة مثل ناظم الغزالي الذي أمسى أشهر مغنٍ عراقي على الاطلاق في الوطن العربي وكذلك إشتهر يوسف عمر الذي حافظ على الطرق الإدائية التقليدية ، ونتيجه أو إستمراراً للتطور الذي يحصل لأجهزة الانتشار ، ظهر شباب جدد على الساحة الغنائية المقامية ، منهم من عاصرتهم من الجيل الذي سبقني ومن الجيل الحالي ، في غناء المقامات ، وكذلك ظهر المغنون الأحدث وأكثرهم من طلابي في معهد الدراسات الموسيقية منذ بداية العقد الثمانيني . فكان في الخمسينات عبد الرحمن خضر وحمزة السعداوي وفي الستينات عبد الرحمن العزاوي وعبد القادر النجار وعبد المجيد العاني وعلي ارزوقي وفي السبعينات كنت مع زملائي عبد الرحيم الاعظمي 1972 وأنا عام 1973 وسعد الاعظمي عام 1977 وفاروق الاعظمي عام 1978 ، أربعة أعظميين فقط في هذا العقد .. وفي الثمانينات طلبتنا في المعهد الذين تبلورت قدراتهم وأصبحوا مغنين جيدين ، ولعل المغنية فريدة تقف في المقدمة وكذلك عوني قدوري ومحمود حسين وصباح هاشم وموفق البياتي وآخرون غيرهم .
تطورات فنية وتقنية
------------
قبل أن تتبلور كنوز أداء المقام العراقي في حبكتها وتقاليدها الفنية ، تراكمت كنوز اخرى تفوق التقدير ، من ألوان غنائية شفوية وعفوية ، التي قد لا يخلو منها أي بلد في العالم ، الغناء البدوي ، الغناء الريفي ، غناء الصحراء ، غناء الجبال ، غناء السهول ، وغيرها من البيئات والتضاريس المناخية والجغرافية … وقصص تروي مآثر الغناء العفوي الصادق من خلال أبطاله المؤدين الباهرين ، واذا توغلنا زمنياً فإننا لا نجد أمامنا سوى بعض المصادر والكتب التي تؤرخ هذه القصص دون سماعنا للغناء طبعاً ، إلا ما سجل في مطلع القرن العشرين بالاسطوانة (كرامافون) والاشرطة الصوتية ومن بعدها المرئية وذلك لظهور وتطور عصر التكنولوجيا وأجهزة الحفظ والنشر بشكلها الواسع المعروف ، وفي أيامنا هذه هنالك من يحاول القيام بجرد لهذه الثروة عن طريق تسجيل الحكايات الشعبية وتسجيل التراث بشكله العام بواسطة البحث العلمي المنهجي … تحت لواء علم الفلكلور ..
ومن خلال تتبعنا لهذه المحاولات البحثية في أعماق التراث بشكله العام والموسيقي بشكله الخاص ، فقد تبين أن هذا الفن المتوارث شفهياً في أشكاله السردية التي تهمنا ، يمتزج في أصله بالدين ويتضح هذا المفهوم بشكل أكيد في علاقة غناء المقام العراقي بالاداء الديني في المناقب النبوية و التهاليل و الحسينيات والأذكار وغيرها من الشعائر الدينية الاخرى ، وحينما نقارن بين فصل من فصول المولد النبوي الشريف ومقاماته التي تؤدى فيه وبين المقامات الدنيوية المناظرة له ، لا نجد فرقاً سوى أن الكلام إختلف وبقي المسار اللحني لأصـول ذلك المقام نفسه دون تغيير يذكر ، وقد نعثر على بعض الألفاظ الممتزجة بمسار أو جملة لحنية بها في الغناء الدنيوي ومعدومة في المناقب النبوية لعدم جواز أو موائمة ذكرها في الإلقاء الديني كونه لا يركز على التطريب بل على الخشوع والابتهال الى الله سبحانه وتعالى.
إن التراث الشفاهي السردي يزوِّد الإنسان بذاكرة هائلة الاتساع فهو يجمع وينقل التقاليد ، أو بالأحرى الثقافة التقليدية المعتمدة على ثقافة الذاكرة عموماً ، وكذلك الاساليب الغنائية ويضمن وصولها الى الاجيال الاخرى بعد أن يحورها ويبلورها بصورة عميقة ويثبت ما هو حقيقي ويضع ما هو جميل وخلاب نزولاً عند تطور المجتمع وتبلوره وإنتشار المعرفة والإبداع فهو نتاج مشاعر وعواطف وأحاسيس لا حصر لها تتساءل وترغب في تفسير الاساليب الجمالية من خلال عملية الابداع والتطور ..
مكانة الفنان
-------
أما مكانة الفنان في تلك الحقبة فقد كان الفنان الموسيقي على وجه الخصوص حتى الملتزم خلقياً ، يـُعتبر إنساناً غير مرغوب فيه إجتماعياً وعلى كافة الاصعدة والمستويات !!!؟..
نتيجة النظرة الضيقة الأفق من قبل الناس الى الفن بشكل عام ، ولنا أن نتصور كم كان فنانونا يتحملون الشيء الكثير من التضحية أمام قساوة المجتمع !! هؤلاء الفنانون الذين منحوا مشاعرهم وأحاسيسهم لمتعة هذا المجتمع … لذا فقد كانت هذه الحالة توشك أن تهوي وتهدم حصون الفن الموسيقي خاصة ، من الرأس الى الاسفل .. لولا وجود بعضٍ من الفئات الاجتماعية المتمدنة ذات الافكار الحضارية التي ساهمت في تشجيع الفنانين واحترامهم ودعمهم معنوياً …
إن حقبة العقود الثلاثة الاولى من القرن العشرين تعتبر بحق حقبة تحولات في شتى المجالات ، وفيها إختلف الوضع الموسيقي اختلافاً كلياً عما سبقه في القرن الماضي ، وقد أسفرت هذه الحقبة عن بعث حياة جديدة لتاريخ غنائنا وموسيقانا بعد أن كان وضع الفن الموسيقي يكاد أن يكون منعزلاً عن التأثيرات الخارجية التي كانت حصيلتها ضيق الافق الثقافي المتأخر . حتى أن الناس كانوا لا يرسلون أولادهم الى أي مركز تعليمي لفنون الموسيقى ، ذلك ان المنظور في هذا الموضـوع يعتبر عيباً وعاراً ، أما العامل الديني فكان دوره مؤثراً سلباً أو إيجاباً ، فنظرة الأديان عامة الى الموسيقى والغناء تتباين صعوداً أو هبوطاً ، لذا فالعوامل عامة أفرزت رواسب إصطبغت بها النظرة الاجتماعية بشكل كبير ، ويحلو للبعض أن يقول أنها زعزعت الثقة في نفوس بعض الفنانين ، أما البعض الآخر فأكثر حدة عندما يتجرأ فيقول ( تعتبر هذه العوامل أسباباً مباشرة في التأثر الثقافي والموسيقي).
أما بالنسبة الى حال الاداء في القرون الاخيرة ، فقد ولد المقام العراقي في القرن العشرين مجدداً ، في أداء المطرب الكبير محمد القبانجي ومن جاء بعده من المبدعين ، إعتماداً على التجارب الاولى التي سبقت هذه المرحلة في القرون الاخيرة وعلى أنقاض الثقافات الادائية البسيطة للمؤدين في تلك القرون ، حيث إحتل الاداء المتوارث موقعاً مهماً في تفكير مؤدي تلك الحقبة الزمنية ..
لقد كان الشكل المؤدى للمقام العراقي منذ القرن الثامن عشر تقريباً يعتبر المثل الاعلى للافكار السائدة في ذلك الوقت ، أو طيلة القرون الماضية ، ولكن ما أن حلَّ القرن العشرين حتى غدا الشكل الادائي للمقامات عموماً يتحرك بديناميكية جديدة كان مثلها الاعلى تلك البواعث الابداعية الجديدة في الاداء المقامي التي أنجزها محمد القبانجي ، مما أضفى على شكل ومضمون الاداء المقامي نكهة جديدة وإطاراً جمالياً ومعنىً حضارياً جديداً إختلف كثيراً عن ما كان عليه في القرون الماضية ، حيث قطع المؤدون منذ القبانجي شوطاً كبيراً في عملية تطوير الاداء المقامي .
وفي القرن العشرين إنحصرت أهمية الدقة في الاداء المقامي على النظرة العلمية والفنية والجمالية ، منذ بداية العمل الادائي حتى نهايته ، في انها تعبير عن القيمة الفنية للعمل ككل .. فالمؤدي يتملكه شعور يسيطر على كيانه ، فهو يبغي التفنن في كل ما هو جميل ، فنرى أن أداءه ينطوي على جوهر هذا الشعور .. فالقبانجي يمنحنا متعة كبيرة في هذا الشأن بأداءه الدقيق للمقامات العراقية خاصة التي أداها في عشرينات وثلاثينات هذا القرن ، وكذلك الشأن في مقامات رشيد القندرجي وحسن خيوكة وناظم الغزالي ويوسف عمر ونجم الشيخلي واحمد موسى وعبد الرحمن العزاوي وغيرهم ، فالاداء عندهم ليس مجرداً أو جافاً بل أداءاً فنياً إستاتيكياً مناسباً لذوق المتلقي .. لذلك فقد أصبح أداء هؤلاء المؤدين تفسيراً شعورياً لما يكتنف أحاسيس ومشاعر الناس وجمالياتهم في التذوق الغناسيقي …
القبانجي وطريقته
----------
ثمة وشائج كثيرة بين أداء القبانجي صاحب الابداعات الزاخرة في أدائه للمقامات منذ العشرينات ، وبين الذين أدوا المقامات من بعده … ومن هذه الوشائج يمكننا التحديد بأن القبانجي بطريقته الادائية الجديدة قاد الاداء المقامي بشكل عام الى منحىً جديد في التعبير عن الديناميكية الادائية ، فكان ظهوره إنعطافة كبيرة في تطور هذه الناحية ، التي بها إستطاع أن يجبر المؤدين اللاحقين له أن يمتثلوا لطريقته الفذة ، مبتعدين بذلك عن تعبيراتهم الذاتية في الابداع وظلوا أسرى طريقته ..
إن الثبات الادائي في طريقة القبانجي هذه لفترة لا تزال قائمة منذ ظهورها أوائل هذا القرن التي إنطوت على تقليد الكثير من مؤدي المقامات لها .. تعني إضافة الى ذلك ، إقرار جماعي من قبل الجماهير المتلقية بنجاح وقوة هذه الطريقة فنياً وتعبيرياً ، وهذا هو شأن الاعلان عن الاستاتيك الجديد والقيم الفنية الجديدة التي تعتمد على العقل والشعور اللذين يمسيان عند جمعهما عضوياً ، الفكرة الرئيسة التي تسود الاداء المقامي … فماذا يريد المتلقي إذن وما هي المزايا التي يبحث عنها عند سماعه للمقامات العراقية بشكل عام ..؟ ولماذا لا يزال يسمعها ؟
أعتقد أن من واجب المغني ، أو المغنين أن يفهموا عصرهم وأن يعبروا عنه بصورة دقيقة ، لأن المستمع إبن عصره وقد نشأ ضمن بيئة ومحيط يريدان تعبيراً فنياً يلائمهما ، فليس من المعقول أن يتفاعل المستمع مع اسلوب وتعبير يعودان الى فترة زمنية سابقة كحاجة ضرورة تعبر عما يريده في عصره ، لذا فعلى الفنانين المؤدين أن يعالجوا بوضوح قضايا المجتمع ، وبطبيعة الحال ان المستمع لا يولي إهتماماً ملحوظاً بالتجارب الفنية المعاصرة ، فهو يعتقد أن من الضرورة أن يتخذ المقام أو الغناء عموماً صفة إجتماعية ، لأن المقام العراقي الذي يصفونه بأنه ينتمي من حيث الشكل والمضمون الى قرون ماضية ، أي الى فترات إعتقد فيها المستمـعون ، أن من الممكن للمقام أن يكون لوحة أمينة للواقع .. لكن هذا الامر يتعلق ببلوغ هذا الواقع أو بالتعرف على أنفسنا فيه أو الهروب منه .
تجارة الفن وظهور ألوان غناسيقية اخرى
------------------------
على كل حال أصبح الغناء والموسيقى يصلان الى أسماع كل أفراد المجتمع ، نتيجة التطور السريع الذي حصل في وسائل الانتشار .. ونتيجة لذلك أيضاً أصبح الفن نوعاً من البضاعة تنتج وتروج حسب الوسائل التجارية .. عندها إختلف الوضع في عصرنا الراهن عن العصور الماضية ، فقد كانت الاعمال الفنية ، هي التي توفق بين التأمل والاحساس والعاطفة وبين إمكانية المستمع على التفهم والاستيعاب ليظهره على نحو محسوس .. أما في عصر التكنلوجيا والانجازات السريعة المذهلة ، فقد أصبح الأمر عكس ذلك تماماً ، فقد أمسى النتاج الفني يتملق الكثرة من المستمعين ليخلق منهم مجموعة كبيرة لا راد لقضائها تسمى ( الجماهير ) ..
من ناحية أخرى ظهر بشكل جلي ، التنوع في ألوان الغناء نتيجة تعدد البيئات ، إقليمية أو تركيبات إجتماعية مختلفة … إذ كانت الحاجة ماسة للتعبير عن وجود هذه الألوان الأدائية بعد أن ساعدت على ظهورها على المستوى الاعلامي شركات التسجيل الاجنبية التي تجولت حول العالم لتسجيل موسيقى الشعوب ، فبعد أن كان المقام العراقي وحيداً في الساحة ، شاركه الغناء الريفي والغناء البدوي الأصيلان إضافة الى غناء وموسيقى إخواننا من الاقليات والقوميات الاخرى ، لذا فقد توجب على الجميع أن يكتشفوا الطريق الى الحقيقة العاطفية والفكرية والجمالية في تعابير أداء هذه الالوان .. الى حقيقة لا يعكرها تفكير عقائدي أو تحيز مشوه .. لأن كل من هذه الالوان الادائية جزءاً لا يتجزأ من المحيط الجغرافي والاجتماعي للعراق الحضاري … فلابد إذن أن نتسلح بكثير من الجرأة الفنية والجمالية لكي نكون على إستعداد تام لمحاربة تجارة الفن ومحاربة الجنوح المادي البحت الموقظ للطباع السيئة ، الذي يحجب المثل الانسانية والسمو الروحي في التعبير الادائي للفنون الموسيقية ، وكذلك محاربة القصور والضيق في أفق التفكير والشعور البيئي .. وندعم أفق الخيال وجماليات التعبير عن السمو الروحي للاداء الغنائي لتأكيد القيم الانسانية من خلال صدقنا وحبنا لموسيقانا … خاصة ونحن نجابه مع تقدم الزمن موجات من الكم الهائل في الانتاج الموسيقي البائس التعبير والتجاري الهدف .. |