المقــــــدمة
كتب من كتب عن الفن الرجولي ، وأدلى دلوه من أحسَّ أن الأمانة توجب عليه أن يثري ويغني المكتبة العراقية على وجه الخصوص والمكتبة العربية على وجه العموم . ولما كان الفن النبيل أو الفن الرجولي هذا ، وأعني به فن - المقام العراقي - الاصيل ، قد تهادت الغيوم حول نشأته الاولى ، وهبَّت العواصف حول ترعرعه ، وتبخترت الامواج حول صَمْدهِ وبقائه شامخاً … ولما كان القرن الحادي والعشرون قد جاءنا محمولاً على صواريخ الفضاء الخارجة عن تصور عقول البشر وخاصة أبناء الدول النامية ، فما بالنا إن كان القرن العشرون قد وصف بعصر السرعة وبدأ القرن الحادي والعشرون يوصف قبل حلوله بعصر الالكترون الذي لا أعتقد أنه سيبقى عند هذه الصفة بل ستزداد صفاته بتطور العلم التكنلوجي المذهل – منذراً . بأن السرعة هي العقل المدبر وأن نوع وكم الانتاج الفني هو المعيار الوحيد للبقاء في الساحة .. فلا وقت لتضييعه ولامجال للذوق أن يتحكم كما يحلو له وينتقي بدلال وهدوء ما ترنو اليه خلجاته الهيمى ووجدانه الخجل …
أقول ، ان دراستي البحثية هذه ، حصيلة فطرة وخبرة ودراسة وتجربة وتطبيق ، آليت على نفسي فيها الدقة والصدق .. مبتعداً عن الخلاف المبالغ فيه في الرأى والتطرف في وجهة النظر التي تعود في جزء منها على الاقل الى التذوق الفردي ، فإنطلقت من إحترام الذات وأقصد إحترام التذوق الشخصي على إعتبار أن كل إنسان هو عالم بحد ذاته مع مراعاة وتأكيد المفاهيم العلمية والفنية والمنطقية متجنباً ما إستطعت سبر ماطرح من آراء متباينة حول علمية المقام العراقي وحول إمكانية تدوينه … فقد رأى البعض أن النقل الشفاهي المتواتر هو الضمان الحقيقي لإستمرارية هذا الفن وان لا ثمة تجديد مطلق .. بيْد أنهم إصطدموا بعصر الالكترون الهائل وتساءلوا ماذا تعني إمكانية تدوين رنين صوت قادم عن بعد سنوات ضوئية عده …؟! ولسان حالهم يقول .. ماهو الليزر وماهو الانترنيت وما دخله بالموسيقى ؟ ولسان حالهم هذا وقف عاجزاً عن الاجابه في سبب إنحسار تذوق الناس للمقام العراقي .. في نهاية القرن العشرين ..!؟
إن دراستي هذه تتضمن دعوة للجميع الى أن يعطوا للتطرف إجازة وللتصلب موضعاً على الرَّف ، ويدعو من يريد أن يعمل وللقادر على العطاء ، ومن له وجهة نظر فليطرحها ويحاول إثباتها … وليثبت أن لاتعارض بين عصر السرعة وبين إنسيابية المقام واسلوبه الادائي الملائم … إنه تراثنا العتيد والحبيب ، إنه نحن … فدعونا نرفده بدم جديد طهور ، بيد أننا لابد أن ننتبه الى مواكبه روح العصر بحيويته وحركته وديناميكيته وديمومته مايجعل شباب الامة ينجذب اليه ويتقاطر نحوه … ولايحلو لهم بديل مهما تزين بآلات مخترعة تعطي رنيناً مصطنعاً …
وعلى أساس من الثقة ومن الايمان ، إستعرضت في هذه الدراسة والمحاور التي تخص شؤون غناء وموسيقى المقام العراقي ، وجهات نظر مطروح بعضها وأخريات بمثابه صدىً لها وأخريات لها صلة بالتنظير … كل ذلك وارد حول الاداء المقامي في القرن العشرين من خلال المؤدين الذين ظهروا في هذا القرن ، أي منذ حقبة بدء التسجيلات الصوتية وتطورها … وتوخيت توضيح بعض الجوانب السلبية والايجابية على حد سواء وناقشت بعض المستلزمات المطلوبة لأداء الفنان الناجح بشكل عام ، أي أنني تحدثت بعض الشيء عن القضية الادائية وتحليلها ، بما يعتلج في داخلي من هموم حول مايسمى بالقضية التحليلية للأداء المقامي والتي لم يتطرق اليها كتاب حاول مؤلفه بصبر وروية أن يتحدث بتحليل علمي موسيقي حول تماسك البناء اللحني وكذلك عن تطور العلاقات اللحنية داخل المقام الواحد أو خلال وحدة العمل الفني بشكل عام … وكما أسلفت ، فليس المهم التنظير لذاته وإلا أحسست للتو ، بالفقر المدقع …
ومهما تكن خلفية المرء الموسيقية ومهما تكن ميوله .. يجب عليه مراعاة القواعد الاساسية للاصول التقليدية للمسارات اللحنية للمقام العراقي ( Form ) باعتبار أننا نغني تراثاً تاريخياً يقترب الى التقديس .. فهو تراثنا نحن .. تاريخنا نحن .. سجل أحداث الآباء والأجداد ومانحن إلا جسر صلب يجب أن نعمل ونوصل الأمانة بكل إخلاص وصدق مع إضافة هويتنا وهوية عصرنا الذي نعيش فيه ، ليتنسى للباحث مستقبلاً أن يستنبط أحكاماً وأحداثاً وتاريخاً من خلال بحثه في هذا التراث الخالد .
في هذه المحاور الدراسية التي كتبتها في فترات زمنية مختلفة ، شيء من الرؤية المستقبلية لما سيحدث ، ولا أدعي التنظير هنا ، ولكني ومن حقي أن اثبت رؤيتي الخاصة وتوقعاتي المستندة الى دراسة وبحث وتجربة وخبرة … فصفه القرن الحادي والعشرين مثلاً صفة الالكتروني كما قلت قبل قليل ، أرى أنها قد لاتتعدى هذه الصفة عقده الاول وستغلب عليه صفات تطورية عديدة كلما توغل الزمن فيه … ويبقى السؤال المهم والملح ..
- هل ستنهي التكنولوجيا خصوصية البيئات ..!؟ أم يبقى هاجس العودة الغريزي لدى الانسان الى الماضي والى التراث ، ملحاً رغم هذه الظواهر العلمية وتطورها المذهل المستمر ..!!؟
**********
فكرة مختصرة عن الغناسيقى
العراقية في القرن العشرين
------------------
كان الأداء الغنائي والموسيقي المقبول في بغداد والعراق عموماً ، منذ أواخر القرن الماضي حتى مطلع القرن العشرين .. كان ولا يزال يعاني من تأخر وتخلف في كثير من مقوماته ومستلزماته الفنية الاساسية المطلوبة .. كان تقليدياً بنسبة كبيرة ، حيث كانت القلة من المؤدين أسماء لامعة مسيطرة على الساحة .. لها سلطة قوية على مسامع الناس ، والاغلبية الساحقة تابعون للبعض .. فكان من هؤلاء البعض مثلاً أحمد الزيدان ورشيد القندرجي والملا عثمان الموصلي ومحمد القبانجي وحضيري ابو عزيز وداخل حسن وناصر حكيم وصديقة الملاية … الخ . كان الأداء في خيالاته العاطفية ، يدور معظمه في التعبير عن هموم المجتمع الفردية والجماعية معاً ومعاناته ، كوننا نعيش في مجتمعٍ نامٍ له تأريخ عظيم ساد فيه العالم يوماً ، مجتهدون الآن في المضي قدماً لبناء مجتمع وحضارة جديدة نستعيد بها ماضينا التليد.
كان الأداء متطرفاً في الإلتزام بالاصول التراثية الغناسيقية خاصة في مضامين هذه الاصول العريقة في غناء المقام العراقي .. نتيجة ضيق الافق الثقافي للمجتمع عموماً .. ولذلك فقد كانت التقاليد الأدائية إضافة الى تطرفها .. ثقيلة الوطأة ، تفرض نفسها بقوة على السواد الاعظم من المؤدين .. وقد تميزت هذه الحقب أيضاً بالاتجاه الاخلاقي القوي في مضامين القصائد وكلام الاغاني سوى بعض الشطحات من قبل بعض المؤدين الذين غلبوا على أمرهم عند تسجيل بعض الاغنيات ذات المضامين الكلامية البذيئة ، يناظر ذلك وجود بعض الشعراء من هذا المستوى الاخلاقي الواطئ . فإن الكثرة من المؤدين يتناولون المبادئ الاخلاقية والفضيلة في إختيار قصائدهم ولا يزال الكثير من المؤدين ملتزماً بهذا المنحى .. وكانت ايضاً أكثر تعابير ومعاني القصائد المغناة وكلمات الاغاني تعبـِّر عن هموم وتجارب المجتمع وعرض النصائح والحكم والشكوى والألم والأنين والتحذير من مفاجئات الزمن .. الخ ، ونرى ذلك واضحاً في مجموعة من أغاني زكية جورج وسليمة مراد وغيرهما، ولا داعي ان نستعرض غيرها من الاغاني فإن معظمها يوحي أو يتحدث عن هذه الهموم .
من جانب آخر فقد سادت القصائد والتعابير الصوفية في أداءات المقام العراقي نظراً للعلاقة الوثيقة بين أداء المقامات العراقية وأداءات الشعائر الدينية في الاذكار والتهاليل والمناقب النبوية الشريفة التي بسببها حوفظ على هذه الأداءات اللحنية المتعاقبة على مدى التاريخ كما هو معروف.
يمكننا من ناحية أخرى أن نؤشر بعض الاسماء من المؤدين الذين تميـَّزوا عن الكثير من أقرانهم بالخروج من محيط المحلية والتقليدية الصارمة ومن ثم تلوين الاساليب الادائية ببعض من المسحات التجديدية والابداعية ، أبرزهم المؤدي والمطرب الكبير محمد عبد الرزاق القبانجي ، الذي يعد بحق رائد الطرق الحديثة في تجديد وتطوير الاساليب الادائية للمقام العراقي .. وذلك بالرغم من وجود بعض الابداعات من قبل المؤدين الذين سبقوه .. بيـْد أن القبانجي كان ذا افق أوسع في هذا المجال .. ، وتميـَّز عنهم بأنه أول من خرج في إبداعاته عن محيط المحلية إذ تأثر ببعض أساليب الاداء الغنائي للبلدان المجاورة .. لكننا نستطيع أن نؤشر أيضاً وبقوة في ظل ظروف تلك الحقبة أن الالتزام الأكثر أهمية للمؤدين بل وحتى المستمعين كان ينصب في تطبيق الاصول التقليدية للمسارات اللحنية لأداء المقامات العراقية ، ولم تكن الثقافة أو مجالاتها كافية للاهتمام بالنواحي الاخرى المطلوبة في تقويم أسس الاداء السليمة ..
ومن الاسماء الاخرى التي جددت في أساليبها الأدائية ، حسن خيوكة الذي يمتاز بأهدأ أداء عرفه المقام العراقي ، والذي أدى المقامات بطريقة متزنة سماتها الرخامة والحس العميق والخيال العاطفي .. وكان المؤدي الشهير ناظم الغزالي هو الآخر من الاسماء البارزة في التجديد والابداع الذي يعد بحق أفضل مؤدي عربي وعراقي من حيث الاداء الفني في القرن العشرين ، فقد كان شديد الاحساس بجمالية أدائه وتلويناته بين القوة والضعف والضغوطات داخل الجملة الادائية ، وبروح أدائية متحضرة إمتلك فيها لب الجماهير بشتى فئاتها وأعمارها وبذلك فقد إقترب كثيراً من جعل المقام العراقي غناءاً جماهيرياً…
هناك أسماء اخرى كثيرة مثل زهور حسين التي أضافت تعابير جديدة في الاداء المقامي رغم أنها لم تؤد المقامات كاملة وكذلك بالنسبة لسليمة مراد التي ساعدت شهرتها على تناول المقامات سماعاً لدى الجماهير ، والمطرب الكبير يوسف عمر الذي تميـَّز باسلوبه البيئي المعبر عن بغدادية التعبير المقامي بكل دقة …
كانت الثقافة الادائية في الغناء والموسيقى عموماً في العراق والوطن العربي أواخر القرن الماضي ومطالع هذا القرن متواضعة وبسيطة في مفاهيمها ، حيث كانت التقليدية كما قلنا هي السمة الغالبة للعاملين في مجال الفن الموسيقي بشكل عام .. ولكن في خضم التطور السريع للعلوم التكنولوجية ، بدأت روح جديدة تـُبعثُ لإظهار الامكانيات الفنية للفنانين الموسيقيين والمغنين رافقتها المـُثل المستنيرة للتعابير الادائية سواء في الأداء التراثي أو الأغاني التي بدأت تـُكتب وتـُلحن وتـُؤدى من قبل أناس معلومين لتصل الى مختلف فئات الشعب .. ورغم أن هذه الفترة نراها بأنها بداية المرحلة التجارية للفن الغناسيقي ، إلا أنها إمتازت بوجود تذوق حيوي للأداء التراثي يدلل على أن هناك بقية من قوة عهد الرواد الذين إمتازوا بالسمو الروحي في تعابيرهم الحسية والخيال العاطفي الجياش ..
|