(2)
سمــاع المقــام
قد يقول البعض ان الاستماع الى الاغاني عامة والمقام العراقي خاصة ليس له وقت محدد ولا يشترط له ذلك . وهذا رأي مطروح بيدَ أنه ينطلق من حيث العموم ولا يأخذ الحالة المزاجية والنفسية .. فساعات اليوم تستغرق الإنسان في بحرٍ من الاعمال المضنية ، تأخذ عليه ألبابه وتشغله عما حوله ، لذا فإنه وإن إستمع في الصباح أو في الظهيرة ، فإن هذه الحالة لا تعدو أن تكون حالة لا تصل الى الذروة المزاجية في معظم الاحيان .. لذا فإن الليل بما يتضمنه من خلود الى الراحة وإنعاش النفس والروح والاستلقاء والاسترخاء ومناجاة الحبيب … الليل وحده بما يحمله من سرٍ إلهي في هدوئه وسكونه .. فإذا بصوت المؤدي ينفذ الى أعماق المستمع فيهزه هزاً ويطير معه في فضاءات الخيال الروحية وينفصل عن الواقع فيبتعد عنه سابحاً في أجواءٍ اخرى . فالسماع بالليل له خصوصية تختلف بالتأكيد عن أوقات اليوم الاخرى ، فإنه حين يحث خطاه قادماً إلينا يوقظ أحاسيس ومشاعر مختلفة في الاستماع الى الموسيقى والغناء ، فيندمج الفكر بالاحساس وتصبـح هنـاك حياة خيالية يعيشهـا المستمع .. حياة كأنها واقعية ، فيها انـاس يشعرون ويتحركون .. وهذه الخيالات التي يعيشها المتلقي عند سماعه للموسيقى والغناء وغناء المقامات والتراث عموماً ، قد تسمو به أو تعذبه .. يبقى فيها عاجزاً عن فهم أحاسيسه مستسلماً لها. وهنا يتمنى المتلقي حين يستثار من المؤدي أن يكون موضعاً للثقة ، سواء أكان ذلك في قيمة العمل المجردة أو اسلوب العبير أو صدقه في الاداء وانفعالاته الحقيقية فيه .. وفي الحقيقة ان المتلقي يطالب المؤدي من خلال أدائه أن يجيبه على بعض التساؤلات والهموم والمعاناة التي يعيشها في حياته .. ومن ناحية اخرى فإن المتلقي عندما يتأثر بعمل أدائي ما ، سواء كان هذا العمل رديئاً أم جيداً في حقيقته المجردة .. ففي هذه الحالة يكون هذا العمل أو أي عمل آخر بشكل عام ، قد أدى الى نتيجة مثمرة لأن المتلقي سوف يرى بوضوح الميزات الموجودة في الاعمال بشتى مستوياتها … وعندما نطلق هنا عن النتاجات الفنية صفة الرديء أو الجيد ، فإننا نقصد الاعمال الرديئة غير المستوفية لمقومات العمل الفني الصحيح والسليم من الاخطاء من حيث القواعد العلمية والاصولية والبنائية والى غير ذلك … والعكس صحيح فإن العمل يكون جيداً .. ولكن أيضاً من الناحية الاخرى ، نطلق على الاعمال عموماً صفات اخرى مثل عمل جميل أو عمل غير جميل .. نرى أن هذه الصفات نسبية تماماً لأن ما كان غير جميل لدى البعض يكون جميلاً لدى البعض الآخر ما دام هذا العمل مستوفياً للشروط الصحيحة المجردة في بناء الاعمال الادائية .. ولما كان الأمر كذلك .. إذن لا وجود لعمل جميل أو عمل غير جميل ، حيث تكون المسألة نسبية في رؤية المتلقي عموماً ، وللناس فيما يعشقون مذاهب .
إن الاستماع الى المقامات في المساء يكتسب لمسة سحرية ، حيث ان السامع في هذه اللحظات يريد أن يتزود بكمية وافية من الخيال والعواطف ، بل هو يريد كذلك أن يستسلم الى تهدئة نفسه من خلال سلطان اللحن والكلمات الشعرية التي يغنى بها المقام ، ليصنع عالماً يكون هو بطله أو ضحيته أو مخرجه .. وهكذا فالمقام العراقي عموماً يندمج في أصله بأحلام اليقظة ، وهي تظهر كإمتداد لحالة باطنية تتكلم بالصور والخيال والعاطفة .. من هنا ، لابد للمستمع أن يحدث له شيء ما في هذه الحياة ، أي أنه لابد أن يمرَّ بتجارب ، وعلى قيمتها يتعامل ويتفاعل مع الموسيقى والغناء ، بل الحياة عموماً .. هذه الحياة التي قد لا يحدث فيها شيء ، إذن يجب أن تتخلل الحياة اليومية تجارب تتكلم فيها المغامرة والحب والترف والحزن … يقول علماء النفس (اننا نسمع الغناء والموسيقى للتعويض عن بعض النقص في التجربة .. لأن المستمع يجد فيما يسمع من موسيقى وغناء ، التصرفات المحرمة عليه من قبل المجتمع ، بشتى جوانبها ، حتى ليجد في سماعه تجارب يصعب تحقيقها في الواقع فيعيشها في الخيال... لأنه في الغالب ، أن هذه التصرفات التي يراقبه المجتمع عليها يخالطه شعور بالذنب تحاول الموسيقى أو الغناء أن تعلله أو تمحوه ، فهي ترضي هذه التطلعات بأن تضع نقاباً عليها يجعلها مقبولة في نظر السامع لكي يكون بإمكانه الاعتراف بها والاستسلام لها . إن سماع الموسيقى والغناء يحرِّرنا ويكشف لنا أنفسنا ، أي يجسد مخاوفنا ورغبتنا ويمنحها شكلاً معيناً) .
إذن لابد أن نطرح مشكلة إندماج السامع مع نفسه ، ولكي يحقق هذا الاندماج لا بد أن يكون هناك نوع من الوحدة أو نوع من الابتعاد والعزلة .. عندئذ يكون في وسع السامع أن يعيش مع أحلامه وخيالاته وتطلعاته بعد أن يفترض مسافة يضعها بينه وبين اللحظة الزمنية التي يحس بها والمكان الذي يشغله ، لحظات السماع والراحة التي تساعده في أن يكون معها بشكل مباشر ، ولهذا فإننا نضع الواقع بين حالين خلال فترة سماعنا ..
إذن فالسامع يحاول الهروب من مشاكل العالم اليومية ، بل مشاكله المباشرة هو ، عن طريق عالم آخر وهمي ، بغض النظر إن كان جميلاً وساحراً أوغير ذلك ، بل يكفي أن يكون متماسكاً .
إن متذوق الغناء التراثي والمقام العراقي يعيش كل هذه اللحظات ، فهذا السماع يخلق له الوحدة وفي نفس الوقت يتيح له الخروج منها ، فهو في هذه الحالة يكون بوسعه أن يعيش اللحظات الممكنة التي لا يسمح بها محيطه وبيئته الاجتماعية أو عصره ..
إن المقام العراقي يقرِّب بين المؤدي والمستمع ويحاول التوفيق بينهما في شعور مشترك .
(3)
مكانة المؤدي في الاداء
ثمة حقيقتان واضحتان تبيـِّنان مكانة المؤدي في الغناء المقامي ، أما الاولى فقد بُحثت فيما تقدم ، وهي التركيز على الطريقة والشكل والمضمون ، التي تجسدت في أداء القبانجي وبعض من نحى منحاه التجديدي مثل حسن خيوكة ويوسف عمر وناظم الغزالي وعبد الرحمن العزاوي وآخرون غيرهم … وأما الثانية فيمكن القول انها كانت ذات تأثير مباشر على تاريخ الاداء المقامي ، وتشمل هذه الثانية ، على الاختلاف في النظرة الى ما كان يعرف على وجه التحديد بالمعنى الجمالي للأداء … ولم تكن هذه مغايرة لمسألة (الفن الجمالي للاداء المثالي) .. التي أثارها القبانجي ومن تبعه في هذا المنحى … غير أن المسألة لم تكن هنا ، مسألة تأكيد أو إنكار للمسؤولية الجمالية للاداء المقامي نحو الجمهور السامع ، وإنما كانت تحديداً لطبيعة تلك المسؤولية بشكل واضح …
إن هذا الحديث يذكـِّرنا بالمؤدية الرائعة مائدة نزهت التي أشتهرت بأغانيها الجميلة ذات الروح البغدادية ، التي كانت تضفي عليها شكلاً جمالياً جذاباً ، وكانت أجمل أغانيها قد أدتها في العقد الخمسيني والعقد الستيني من القرن العشرين ، وقد ساهمت مائدة نزهت في أغانيها وفنها في معالجة الموضوع الجمالي للاداء البغدادي من خلال الاغنية البغدادية الملحنة بشكل يثير الاعجاب ..
أما تجربتها الاخيرة التي بدأتها في النصف الاول من العقد السبعيني حتى النصف الثاني من العقد الثمانيني في أداء المقامات العراقية ، فقد كانت ناجحة بحق ، أضافت فيها الكثير للاداء المقامي البغدادي النسوي … ورغم نجاح مائدة في المقامات التي غنتها ، إلا أنها كما يبدو كانت شهرتها في مجال الاغنية طاغية بحيث أثـَّرت كثيراً على عطائها وشهرتها في مجال أداء المقامات ، فلم ينتبه إليها بسبب ذلك جمهور كافٍ ، شأنها في ذلك شأن سليمة مراد ، مع أن مائدة عنـَّت مقامات أكثر عدداً وأدق أداءاً وأصولاً …!!
عاصرتُ السيدة مائدة نزهت فنياً لأكثر من إثنتي عشرة سنة ، كنا فيها ننتمي الى فرقة التراث الموسيقي العراقيالتي أسسها الفنان الكبير منير بشير عام 1975 رسمياً .. هذه الفرقة التي قّدر لأعضائها ومن خلالها أن يتجولوا في بلدان كثيرة من العالم ، بما كانت تشارك به في أرقى المهرجانات والمؤتمرات الدولية والفنية الموسيقية التي أقيمت في شتى أنحاء العالم وعلى وجه الخصوص دول اوروبا الغربية .
لا أعتقد أن المؤدية مائدة نزهت كانت تفكر في يوم ما أن تكون مؤدية للمقام ، ولكن الحاجة دعت الى ذلك بعد إنضمامها الى الفرقة ، ولعبت المصادفةدوراً بأن أكون معها في فرقة واحدة ولقاءنا المستمر من خلال دوام الفرقة اليومي كموظفين فيها طيلة أكثر من إثنتي عشرة سنة ، عمل وسفر وتجربة حية خالصة تجسدت بالمشاركات الدولية ، عكفتُ خلالها على تعليمها بعض المقامات الفرعية التي عنـَّتها في وسائل الاعلام ، وكذلك في المسارح العالمية ، وبقينا على هذا الحال الى ما بعد أواسط الثمانينيات ولحين إضمحلال الفرقة ومن ثم إعتزال السيدة مائدة نزهت وابتعادها عن الفن بشكل نهائي ، ولذلك فإن هذه السيدة تعد واحدة من اللواتي عنـَّيـْن المقام العراقي بدقة وحسب الاصول التقليدية للمسارات اللحنية التراثية ، ولكن باسلوب وتعبير عصري فذ ساعدها على ذلك تجربتها الكبيرة في الغناء بصورة عامة ، ولا زال مقام الحويزاوي الذي أدته بالقصيدة أدناه للشاعر عبد المجيد الملا من أروع المقامات المؤداة حقاً ..
يامن هواه أعــــــزه واذلني / كــيف السبيل الى وصالك دلني
واصلتني حتى مــلكت حشاشتي / ورجعت من بعد الوصال هجرتني
الهجر من بعــد الوصال خطيئة / يا ليت قبــل الوصال قد أعلمتني
أنت الذي حلفتني وحـــلفت لي / وحـــلفت أنك لا تخون فخنتني
وحلفت أنك لا تميل مع الــهوى / أين الـــيمين واين ما عاهدتني
لأقعدنِ على الطريـــق وأشتكي / كشكوى مظلــومٍ وأنت ظلمتني
ولأدعون عـليك في غسق الدجى / يبليك ربــــــي مثلما أبليتني
|