حين التقيته ، كان رجلاً من طرازِِِِ فريدْ . وكانت لحظةً من أجمل اللحظات . وقتها ، أدركت كم يساوي ، دخول محراب فنان عتيدْ ، وفنان خاض بسلاح الموهبة غمار التجارب و السنين . وأي سنين ، بل هي سجلات الخبرة ، ودروس وأصول وعبرْ ، في الفن وما للفن من سيرِِْ... اسمه من صفاته ، غانما ما استطاع من حب ومن سحر ومن وطرْ... انه ساحر المعزف ونديم الشعر والوترْ .
ولج عالم الموسيقى في الثلاثينات حين شُكلت في بغداد أول فرقة نشيد مركزية ،وكانت بإشراف الفنان التربوي الراحل حنا بطرس ، الذي اختار أعضائها من طلبة عدة مدارس ، أما الهدف الذي تشكلت من اجله الفرقة فكان إلقاء الأناشيد في إذاعة قصر الزهور التي يشرف عليها الملك غازي شخصياً ، وقد كان الصغير غانم احد أعضاء هذه الفرقة التي زارت العديد من المحافظات لتقديم النشاطات الفنية وإحياء المهرجانات الوطنية والرياضية .
أغمض جفنيه لدقيقة ورسم ابتسامة صغيرة وهو يتذكر طفولته ، واستأنف كلامه " اذكر إن الملك غازي قد أمر قبل موعد الاحتفال بعيد الأضحى بخياطة بدلات موحدة للفرقة ، وبعد وفاة الملك انحلت الفرقة ، وقتها اقترح الأستاذ حنا بطرس تعليمنا العزف على الآلات الموسيقية النفخية ، وتحمس بعض الزملاء للفكرة وبدؤوا بأخذ تمارين في العزف على الآلات النحاسية ، وكانوا يتدربون في معهد الموسيقى الذي كان الأستاذ حنا بطرس مديراً له ، وأثناء وجودنا في المعهد تفاجئنا بتعيين الشريف محيي الدين حيدر الذي كان عازفاً مشهوراً على التي العود والتشيلو عميداً للمعهد " . وللتوضيح تجدر الإشارة إلى أن وزارة المعارف العراقية عقدت العزم على تأسيس أول معهد لتدريس الموسيقى في العراق في عام 1936 وقد خاطبت الوزارة المذكورة الموسيقار الشريف محي الدين حيدر عبر رسالة للاستفادة من خبرته العالمية كونه قد تعلم الموسيقى الشرقية على يد كبار أساطين الموسيقى في تركيا قبل أن يدرس الموسيقى العالمية في أميركا التي عاد منها إلى تركيا بعد أن طاف العديد من مدن العالم وقدم حفلات للعزف على التي العود والتشيلو ونال منها شهرةً عالمية . وقد أرسل الشريف محيي الدين حيدر رسالة مستفيضة شرح فيها رأيه في الفكرة وأجاب على كل التساؤلات بخصوص نظام المعهد والمواد التي تدخل في مناهج الدراسة فيه ، وحين تلقت الوزارة رسالة الشريف محيي الدين حيدر باشرت بتأسيس المعهد في نفس العام وسمي بمعهد بغداد للموسيقى وكان مقره في محلة المربعة ببغداد في منزل استأجرته الوزارة لهذا الغرض وعين الأستاذ حنا بطرس مديرا للمعهد في الوقت الذي وجهت فيه الوزارة الدعوة للموسيقار محيي الدين حيدر للحضور إلى العراق والمساهمة في تأسيس المعهد وتهيئة الكادر الفني الذي سيعمل فيه ، ولم تمضٍِِ إلا أيام قلائل حتى حط الرجل رحاله في بغداد يرافقه اثنان من زملائه الفنانين وهم ساندو آلبو وجوليان هيرتز والأول عازف وخبير في آلة الكمان والثاني عازف ومؤلف موسيقي وكلاهما يعزفان برفقة الشريف محيي الدين حيدر في تشكيل ثلاثي عرف بعد ذلك باسم ثلاثي البيانو والكمان والتشيلو بعد أن قاموا بتقديم ربع ساعة من الموسيقى العالمية في الإذاعة اللاسلكية اسبوعياً ضمن برنامج فاصل من الموسيقى الغربية وقدموا في بغداد حفلات عديدة في قاعة الملك فيصل باسم ثلاثي أساتذة المعهد ، وكونوا اللجنة التي تولت اختيار طلبة المعهد مع الأستاذ حنا بطرس الذي أصبح معاوناً للعميد بعد أن أصبح الموسيقار الشريف محيي الدين حيدر عميداً للمعهد .
ويتذكر الأستاذ غانم حداد علاقته الأولى بآلة الكمان فيقول " أحببت آلة الكمان وتقدمت أنا وشخصِِ آخر للدراسة في قسم الآلات الوترية وتم قبولي بالمعهد ، بعد تلك الفترة وجدنا من شجعنا حتى نتعلم فبعد المقابلة التي اجتزتها اختارني الأستاذ ساندو آلبو لفرع الكمان ودرست بإشرافه ثلاث سنوات كنت خلالها أنال رضا جميع الأساتذة ، إلا إنني تعرضت فجأة لحادثٍ كسر على أثره ذراعي الأيسر مما سبب لي آلاماً راحت تمنعني من مواصلة التمرين ، وبعد شفاء الكسر نهائياً استمر الألم يعاودني أثناء العزف فقررت ترك المعهد وكان أمراً مؤسفاً لي ولأستاذي الذي روى لعميد المعهد ما حصل معي ونيتي ترك الدراسة بعد أن أوصلني إلى مستوىً متقدم قياسياً ، ويومها أرسل الموسيقار الشريف محيي الدين حيدر بطلبي وقال لي ؛ (( سمعت إن حادثاً أصاب ذراعك ما جعلك تتأخر في دراسة الكمان وأنا اقترح عليك تغيير آلة الكمان والانتقال إلى العود وتستمر في الدراسة لان من المؤسف أن يترك المعهد طالب بمثل موهبتك ، والعود آلة جميلة وواسعة التعبير ولها أعمال كثيرة وان شاء الله ستوفق فيها مستقبلاً )) ثم امسك بعوده وقال (( انظر)) وأعطاني العود وقال (( حرّك أصابعك ، هل تشكو من شيء ؟ . . غداً تحضر دفترك وتنتظم في الدراسة معي )) ومازالت احتفظ بهذا الدفتر الذي كتب فيه الشريف محيي الدين حيدر تماريني الأولى " .
وقد درَس الأستاذ غانم حداد العزف على العود لمدة سنتين حتى تخرجه من المعهد في عام 1946 ، ولحبه لآلة الكمان وتعلقه الكبير بها كان يطبق عليها ما يحصل عليه من معلومات فنية ومقطوعات موسيقية شرقية في دراسته لآلة العود ، وكان يلاقي التشجيع من أصدقائه حين يعزفون سوية في المعهد وبشكلٍ خفي لأن الكمان الشرقي ممنوع في المعهد . وبعد التخرج استمر في حياته الفنية وكان موعودا ًببعثةٍ دراسيةٍ إلى الهند والى بريطانيا لمدة سنة على نفقة مجلس الاعمار ، ولكن البعثة ألغيت بسبب تغير الظروف العامة للبلد بعد الحرب العالمية الثانية ،وعين بوظيفة رسام هندسي في القسم المعماري لمديرية الأشغال العامة لمدة ثمان سنوات فضلاً عن عمله المسائي في دار الإذاعة والتلفزيون كرئيس للفرقة الموسيقية ومشرفاً على القسم الفني الموسيقي في الإذاعة الكردية ، حتى استدعاه الشريف محمد أمين حيدر ( الأخ الأصغر للشريف محيي الدين ) الذي أصبح عميداً للمعهد في تلك الفترة للتدريس في المعهد وطلب تعيينه في المعهد مع احتساب مدة خدمته واحتفاظه بمسؤولياته الفنية المسائية في الإذاعة والتلفزيون التي قطعت علاقته بها بعد تمتعه بزمالة دراسية في براغ بجيكوسلوفاكيا لمدة سنه ونصف وعودته بعد إكماله البعثة للتدريس في القسمين الصباحي والمسائي في المعهد الذي أصبح اسمه معهد الفنون الجميلة بعد توسيعه بإضافة أقسام أخرى كالرسم والنحت والمسرح وغيرها .
في أواسط السبعينات ، رأس الأستاذ غانم حداد وفد وزارة الإعلام الذي زار تركيا وقد أجرت معه الصحف والإذاعات آنذاك العديد من الحوارات المقابلات الصحفية التي شرح من خلالها تطور حركة الموسيقى في العراق ودور التربية الموسيقية فيها ، ومن بينها لقاء تحدث فيه عن تأسيس معهد بغداد للموسيقى واستكماله لفروع مختلف الآلات الموسيقية وتطوره إلى معهد فني تدرس فيه كل الفنون الجميلة وتعميم التجربة في أكثر من محافظة عراقية وتخلل حديثه ذكر لأستاذه الشريف محيي الدين حيدر ما أثار انتباه السيدة صفية آيلة زوجة أستاذه الراحل والمغنية التركية الشهيرة التي كانت تستمع إلى هذه المقابلة الإذاعية التي أجريت في السفارة العراقية بأنقرة صباحاً في نفس اليوم الذي سيقدم فيه الوفد الفني العراقي حفلاً مسائياً ، يقول الأستاذ غانم " ابتدأ الحفل الساعة السابعة مساءً وبصفتي رئيساً للوفد سأحيي الجمهور الجالس في قاعة كمال أتاتورك تتوسطهم السيدة صفية آيلة المغنية التركية القديرة وزوجة أستاذي بعزف مقطوعة للشريف محيي الدين حيدر، وما أن لامست أصابعي الأوتار حتى عمّ صمتٌ مطبق فجر طاقتي الأدائية وجعلني اعزف من كل حواسي ، و أثناء العزف نظرت إلى صفية آيلة التي وقفت بعد انتهاء الحفل واقتربت مني ، حينها قلت لعريفة الحفل بأنني اجهل التركية فقالت (( السيدة صفية تقول اقدر حكي كلمة )) فأجبتها بأنني انتظر هذا الموضوع ، سارت بعد ذلك خطوات قليلة نحو المايكروفون الذي كان أمامه باقة من الزهور وقالت: (( أنا سعيدة جداً جداً بهذا الحفل الذي استمعت فيه إلى فن من الفنون العراقية الأصيلة وأكثر ما أسعدني وشرفني هو تلميذ زوجي الفنان غانم حداد ، وبعد أن استمعت إلى أعمال المرحوم زوجي سأقدم للوفد العراقي هدية بهذه المناسبة العزيزة وهي أغنية عربية تعلمتها قبل بضع سنين من الفنانة أم كلثوم أثناء لقائي بها وسأغنيها لكم قدر ما أستطيع أن أتذكر من كلماتها العربية )) ، وابتدأت بغناء أغنية ( يا ليل الصبّ متى غده ) بصوتها الشجي ، ولم تقدر أن تؤدي أكثر من المذهب وبيت شعري واحد ، يومها لا أستطيع أن اصف إعجاب الجمهور بتلك الأمسية.
وقد شارك الأستاذ غانم حداد في العديد من المهرجانات والمؤتمرات الفنية المحلية والدولية وسجلت له الإذاعات العربية والأجنبية عشرات الساعات من العزف الانفرادي على آلتي العود والكمان الشرقي اللتين أبدع بهما ، وقد أسس مع كل من عازف العود الموسيقار الراحل روحي الخماش و عازف التشيللو الأستاذ الراحل حسين قدوري و عازف القانون الأستاذ سالم حسين و عازف الرق الفنـان إبراهيم الخليل خماسي الفنون الجميلة، و قدمت فرقة الخماسي العديد من الحفلات داخل وخارج العراق تضمنت مختلف ألوان الموسيقى العراقية والعربية والقوالب الكلاسيكية كالسماعيات والبشارف واللونغات والمقدمات والتحميلات الموسيقية تتخللها باقات من الارتجال الانفرادي والتقاسيم الكلاسيكية ، كما وألّف الأستاذ غانم حداد مؤلفات مهمة لآلة العود منها وأشهرها ؛ سولاف و مزاهر و سماعي لامي و سماعي رست و رقصة الغجرية و فراشة ، وقام بوضع دراسات وتمارين و مقدمات متميزة من وحي التراث الموسيقي العراقي ، وقد تتلمذ على يديه المئات من طلاب الموسيقى وهواتها وكان من بينهم أسماء لامعة في مجال الموسيقى مثل أستاذة العود معتز محمد صالح و علي الإمام و صلاح القاضي وسالم عبد الكريم و سامي نسيم وآخرين .
يتميز أسلوب الفنان غانم حداد في العزف على العود والكمان بالبساطة في بناء الجمل والتراكيب الموسيقية ، والاستغراق في التأمل أثناء الوقفات بين الجمل الموسيقية و أغناء الأداء بتقنيات ( الفيبراتو ) أي النغمات المهتزة و( التريل ) أي زغردة النغمات بالتناوب السريع بين نغمتين و( الكليساندو ) أي الزحف التدريجي على لوحة الأصابع وتفادي العزف على الأوتار المطلقة مع توخّي الدقة في الانتقال بين المقامات والأوزان الموسيقية ما يمنح المستمع فرصة الاستيعاب وتذوق التطريب الملتزم بأصول المقام العراقي والموسيقى العربية الكلاسيكية من رجلٍ خبرَ تراث بيئته وامتلك مفاتيح صنعته . |