احمد فاضل
لم يتعرض فنان للإقصاء والتهميش مثل ما تعرض له الموسيقار الراحل رضا علي ، فهذا الفنان الرائد رحل عن دنيانا وهو مدمي القلب بعد ان قدم للفن الغنائي والعربي اغاني ظلت راسخة في اذهان محبيه حتى بعد ان اغلقت المؤسسات الفنية ابوابها بوجهه في زمن الفترة الصدامية المظلمة
لكن الذي يحزن اكثر اننا وبعد ان زال عن صدورنا وقلوبنا واذهاننا ذلك الكابوس المرعب إستبشرنا خيرا وجلسنا ننتظر الإنصاف من مؤسساتنا الفنية ان تعيد بريق السنين لهذه الباقة الجميلة لاعمدة الطرب العراقي امثال قحطان العطار وجاسم الخياط وحسين السعدي وستار جبار وصباح السهل وقبلهم يحيى حمدي وحمدان الساحر وعزيز علي ورضا علي ، إلا ان ظننا خاب فقد صدمتنا شبكة الإعلام العراقية وهي الجهة الرسمية التي بإمكانها إعادة الحياة لهؤلاء الفنانين سواء بإذاعة تراثهم الغنائي والتعريف به وإعادة تسجيله ونشره عبر وسائل الإتصال المرئي والمسموع والمقروء ، لكن الذي سيبقى هو ذلك الامل الذي داعب مخيلتنا مذ تربت اسماعنا على اصوات اساطين الطرب العراقي وحتى وداعهم ولد الفنان رضا علي عام 1934 ببغداد في منطقة شعبية إسمها ( درب الفكوك ) بالقرب من منطقة ( الشواكة ) المحلة الشعبية المعروفة ، لكن بعدها باعوام قليلة إنتقل مع عائلته إلى مدينة ( الكاظمية ) المقدسة ليسكن في ( باب الدروازة ) وبالتحديد في محلة ( القطانة ) وفيها عاش مطلع شبابه وزواجه ونجاحه الفني بتشجيع ومساندة ابناء تلك المحلة . وبسبب تلك الهواية فقد اختار معهد الفنون الجميلة لإكمال دراسته في قسم الاخراج والتمثيل لان قسم الموسيقى لم يكن قد إكتمل بعد في ذلك الوقت فاعتمد على موهبته كما صرح للناقد الموسيقي عادل الهاشمي في لقاء خاص معه قبل رحيله حيث قال : ( تخرجت من معهد الفنون الجميلة قسم الإخراج والتمثيل ولم ادرس الموسيقى بشكل اكاديمي وإنما علمت نفسي بنفسي ولم اتتلمذ على يد اي كان بل إن إعتمادي على موهبتي ونفسي كان الاساس في تجربتي الفنية حتى اني لم اغني لاي ملحن غيري ، حتى لايتغير لوني الغنائي الذي عرفت به ).( 1)ولان معترك الفن هو بساط طائر تحلق في سماواته هذه النخب الفنية التائهة في حبه ، فقد إلتقى فناننا بالشيخ علي الدرويش الذي كان قبلة الفنانين في عصره لما يمتلكه من ثقافة موسيقية كبيرة إضافة لاستاذيته في العزف على العود وتدريسه ، فقد تتلمذ على يديه العديد من الموسيقيين والمغنين ، فاعانه على دخول الإذاعة بعد ان إستمع إليه واعجب به فتخطى لجنة الإختبار وسجل اول اغنية له عام 1949 هي ( حبك حيرني ) ثم تلاها بقصيدة للشاعر العراقي زكي الجابر ( ذكريات ) ثم اغنية ( مالي عتب وياك ) واغنية ( شد عليك يلي حركت كلبي ) والتي ادتها فيما بعد المطربة نرجس شوقي ، ثم جاءت الاغنية التي دفعته ليتصدر الصفوف الامامية بين المطربين الا وهي اغنية ( سمر سمر منك يغار الكمر ) فمنحته جواز المرور إلى قلوب المعجبين والعشاق . ومع كل ماكان يقدمه من الحان حافظ فناننا على لونه الغنائي البغدادي والذي إتصف بالبساطة والتلقائية فكان لونا محببا جذب إليه الكثير من الاصوات اللامعة آنذاك كي تنشد وتغني لهذا الفنان الشاب فغنت له المطربة الشهيرة عفيفة إسكندر موشح ( قيل لي قد تبدلا ) والفنانة مائدة نزهت التي غنت له اكثر من اغنية منها ( مر يا اسمر مر ) و (بيا عين جيتو تشوفوني ) و ( إسا لوه لاتسالوني إسا لوه ) وكذلك المطربة زهور حسين التي غنت له ( تفرحون افرح لكم ) و ( يا بنت البلد ) وهذه الاغنية غنتها في فيلم وردة ، ففي كل هذه الاغاني كانت النكهة العراقية بتنويعاتها اللحنية وما حفلت به من روح مقامية تشد لها الإنتباه فطارت إلى ارجاء الوطن العربي واصبح لفناننا رضا علي معجبون في الشام ومصر ولبنان والمغرب العربي ، وجاءت اليه الاصوات الغنائية المعروفة تطرق بابه فوضع للمطربة سميرة توفيق ( إللوم مرمر حالتي ) و( ادير العين ما عندي حبايب ) لراوية و (ادلل وشلون إعيون عندك ) لنهاوند و ( يا سامري دك الكهوة ) لفهد بلان ، ولم يقتصر الموسيقار رضا علي على الغناء والتلحين بل اسهم كممثل في بعض افلام السينما العراقية منها فيلم ( إرحموني ) مع المطربة هيفاء حسين ومن إخراج الفنان حيدر العمر وقد غنى فيه ( ياوليدي يلة نام ) واغنية رمضانية بعنوان ( عباد الله ) وإستعراض غنائي بعنوان ( وادي الرافدين ) الذي شدا فيه بكل الوان الغناء العراقي من شماله حتى جنوبه ، كما شارك في فيلم ( لبنان في الليل ) الذي تم تصويره في لبنان من إخراج المطرب محمد سلمان ومثلت معه الفنانة المعروفة صباح وسميرة توفيق ورشدي اباظة وغنى فيه ( إسالوه لا تسالوني إسالوه ) ثم شارك بفيلم آخر هو ( ياليل يا عين ) من إخراج كاري كاربنتيان إن رضا علي يمثل مرحلة متكاملة في تطور الغناء العراقي واضاف لها إضافات نوعية تجلت في نقله الحان الموروث الفولكلوري إلى الاغنية الشعبية الملحنة اصلا للروح المدنية ، كما إعتمد على جانب البساطة والسلاسة في إسلوب التلحين التي اضفت على اعماله نسمة شعبية الامر الذي قربه كثيرا إلى قلوب المستمعين وجعله احد رواد الاغنية العراقية اداءا ولحنا على مدى عقود من الزمن . اما عن رصيده العربي فقد تحدث فناننا عن حجم تلك المشاركة قائلا :( كثيرون من تعامل معي من المطربين والمطربات العرب فمثلا الفنانة فائزة احمد انا الذي اكتشفتها في بغداد ومنها إنطلقت شهرتها حيث لحنت لها الكثير من الاغنيات مثل ( ميكفي دمع العين يابوية ) و( الله وياك روح تمهل بحبك ) و( خي لاتسد الباب خي بوجه الاحباب ) اما سميرة توفيق فاشهر اغنية لحنتها لها ( وحدك ملكت الروح يابن العشيرة ) كذلك لحنت مجموعة اغان لفهد بلان اشهرها ( ياسامري دك الكهوة ) اما الفنانة راوية فاشهر اغنية لحنتها لها هي ( ادير العين ما عندي حبايب ) ولا انسى المطرب عبد الحليم حافظ الذي غنى اغنيتي ( ذوبني كلبي وذاب خلصوني منة ) كما لحنت قصيدة ( إختاري ) للشاعر نزار قباني وذلك عام 1972 ولكن الظروف لم تسنح ) .( 2) من جانبه قال الناقد الموسيقي المعروف عادل الهاشمي اثناء مقابلته للفنان رضا علي في شقته بشارع حيفا قبل رحيله إلى الدار الآخرة : ( إن هذا الشارع الذي تسكنه والذي يسمى شارع حيفا ، حري ان يغيّر ليصبح اسمه شارع رضا علي ) . لكن هذا الفنان الكبير تعرض لظلم ووحشية النظام المباد حيث سعى ذلك النظام لدق إسفين طائفي مقيت بين ابناء الوطن الواحد ، كان من جراءه إبعاد ابناء الوطن المحسوبين على هذه الطائفة او تلك إلى مناف بعيدة ، فكاد ان يطرد فناننا خارج العراق كونه من الاكراد الفيليين لولا الوساطات التي احرزت تقدما في بقائه في العراق لكنه مقابل ذلك جرى تعتيم مقصود ضده مما إضطره عام 2001 إلى مغادرة البلد إلى اوربا للعيش هناك والعمل في معمل للصناعات الجلدية ، وبعد سقوط الطاغية عاد إلى وطنه ثانية وقبل الارض التي غادرها مكرها فاتصل به محبوه للعودة إلى نشاطه الفني من جديد لكنه هذه المرة إصطدم ببلاءين اخرين حرمته من إعادة ذلك الثراء الفني لايامه المجيدة فتوفي نتيجة لتلك المعاناة في التاسع من نيسان عام 2005 بعد ان ترك إرثا فنيا كبيرا من الاغاني والالحان العراقية الاصيلة ، ولو كان رضا علي في بلد آخر لاقاموا له تمثالا ولصنعوا منه اسطورة لكنه فضل ان ينام تحت ظلال نخلة وارفة تضلل جسده المتعب وشاهدة قبره تقول : ( هنا يرقد الفنان رضا علي فهلا القيتم السلام عليه. |