1 - إزدهار جديد للمقام العراقي
2 - ظهور المرأة بعد سبات عميق
3 - التسجيلات الصوتية
4 - مراحل التطور
5 - تأثيرات القبانجي
6 - بعض انجازات التجربة النسوية
7 - المقام المصنوع
(1)
إزدهار جديد للمقام العراقي
منذ مطلع القرن العشرين كما مر بنا ، شهد الاداء المقامي ولادة جديدة له ، وتحولات واضحة في فنونه الادائية ، ولعل مرد ذلك يعود إلى امرين ..
- اولهما : نشوء الدولة العراقية الحديثة بعد الحرب العالمية الاولى وشعور الفرد العراقي مجدداً باستقلاليته وبعزته واعتداده بنفسه ..
- والامر الثاني : هو تطور التكنولوجيا بقوة وسرعة فائقتين ..
ارى ان كلا الامرين ساهما في الولادة الجديدة والتحولات الواضحة المعالم في الاداء المقامي .. ومنـذ هذه الحقبة - حقبة التحول - وجيلها جيل التحول برزت الكثير من النتاجات الصوتية في غناء المقامات العراقية باصوات غنائية مقتدرة ، مثل نتاجات جميل البغدادي ورشيد القندرجي ونجم الشيخلي وعباس كمبير ويوسف كربلائي وعبد الفتاح معروف وجميل الاعظمي ومحمد القبانجي ورشيد الفضلي وعبد القادر حسون وأحمد موسى ويونس يوسف وصديقه الملايه وسليمه مراد وسلطانه يوسف وشهاب الاعظمي ومجيد رشيد وعبد الهادي البياتي وغيرهم .
(2)
ظهور المرأة بعد سبات عميق
في هذه الحقبة ( حقبة التحول ) تحركت المرأة لتعلن عن وجودها ، بعد سبات عميق من الانعزال الاجتماعي خلال الفترة المظلمة .. استيقظت لتشارك أخاها الرجل رغم تحفظه منها .. برزت كإنسان متحرر المشاعر ، تسعى إلى الحياة الحقيقية ، إلى الحب الحقيقي ، تختار شريك حياتها بغض النظر عن التفاوت أو التقارب الاجتماعي .. وبالتالي تختار حياتها بنفسها .. غنت التراث الموسيقي كمحاولة رائدة ، فأعطت تصويراً جديداً لكيانها ، تجرأت في الفن وقدمت نفسها في الغناء ، ومنهن من اختصت بأداء المقام العراقي مع أنها تبقى محاولات تتسم على وجه العموم بالحذر والتحفظ ، ذلك أن المرأة لم تغني المقام العراقي بكل أصوله التقليدية من حيث الشكل ، فقد ولجت ميدان المقامات على استحياء أول الامر ، فبدأت ( بالبسته ) ثم تتابع الامر بعد ذلك ، فأخذت طابع التقليد احياناً ، واحياناً اخرى طابع الاقتباس … وكانت أول التجارب النسوية في الاداء المقامي في العقد الثالث من القرن العشرين ، وارتبط أول ظهور للنتاجات الصوتية النسوية المقامية بأسم صدِّيقه الملايه التي بدأت نشاطها الفني منشدة في الفرق الدينية لاداء الشعائر الدينية ، حتى دخلت ميدان احتراف الغناء المقامي ، وإلى جانبها كرائدات لهذه التجربة مغنيات اخريات أدّيـْن المقام العراقي أو وصلات صغيرة منه لترسيخ أسس هذه التجربة مثل سليمه مراد وسلطانه يوسف وبدريه أنور وجليله العراقية أم سامي وغيرهن من نفس الجيل والاجيال الاخرى التي تلت .
(3)
التسجيلات الصوتية
وكما هو معروف فقد نشطت في بغداد مع بداية العقد الثالث من القرن العشرين ، حركة التسجيلات الصوتية الغناسيقية لعموم مؤدي البلد ، وكان لمؤدي المقامات حصة كبيرة في هذا الشأن .. فقد كثرت ظهور النتاجات المقامية في هذه الحقبة على نحو كبير وكثير بعد مجيء الشركات الاجنبية للتسجيل الصوتي إلى بغداد في سعيها لتسجيل تراث غناسيقى الشعوب .. وارتبط ظهور هذه التسجيلات بظهور أسماء كثيرة من المؤدين المقاميين في هذه الحقبة وكذلك ظهور البوادر الاولى للتجربة النسوية في الاداء المقامي .. وانعكس هذا الحال على بروز الصراعات الفنية والمنافسات التي احتدمت بين الطرق الادائية ومؤسسيها من مشاهير الغناء المقامي والمؤدين عموماً .. واخيراً ظهور جيل من المؤدين نحى منحى الاداء الجديد الذي تميز بأساليب ابداعية جديدة من خلال مثيرها الأول محمد القبانجي .
وارتبطت هذه التطورات الجديدة في الغناء والموسيقى في بلدنا أيضاً ، بانشاء وتأسيس الاذاعة العراقية عام 1936 التي اسهمت بدور كبير في انتشار هذه التسجيلات وأيصالها إلى الاسماع دون ان تكون ضرورة لحضور المغني بين الجمهور فعلاً … ومع الاذاعة تزامن تأسيس معهد الفنون الجميلة الذي أخذ على عاتقه انشاء اجيال متعلمة في الموسيقى والغناء .
كذلك تتصل نتاجات مطرب الأجيال محمد القبانجي وطريقته الادائية بفترة اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين واتجاهاتها الفكرية والجمالية ، وهي الفترة التي شهدت تحولاً ملموساً تجاه الحياة برمتها واتجاه الغناء المقامي كنوع غنائي تراثي .. وذلك التحول الذي مهد لانتشار الانواع الغناسيقية التراثية الاخرى كغناء الريف والبادية وباقي البيئات الأخرى ، بعد الهجرات التي استمرت من القرى والارياف إلى المدينة . وبعد ان كان المقام العراقي وحيداً في الساحة الغناسيقية .
(4)
مراحل التطور
ترتبط مراحل تطور غناء المقام العراقي في القرن العشرين ارتباطاً وثيقاً كما يبدو ، بالسير العام لتطور الاحداث الوطنية والقومية والدولية للعراق .. فقد كان لهذه الاحداث ، تأثيراتها على نمو الوعي الفكري والفني والجمالي في التعبير ، وانعكاساتها في المجتمع العراقي .. فالعراق الذي بدأ منذ بداية القرن العشرين ، ينخرط أكثر فأكثر في دائرة الحياة الدولية العامة محاولاً أن يعيد مكانته التاريخية الخاصة بين الشعوب وهو صاحب التاريخ الحافل والحضارة العريقة ، إذ لم يستطع أن يبقى في منأى عن تيار الاحداث الوطنية والقومية والدولية وتأثيراتها .. وقد كان لتأثيرات ثورة العشرين في العراق واغتصاب فلسطين من قبل الصهاينة والحربين العالميتين الاولى والثانية اثارها البالغة على الوعي والواقع الاجتماعي فـي العراق وأيضاً على التيارات الفكرية والفنية والجمالية ، علاوة على ذلك الكثير من الاحداث الاخرى التي ساهمت في هذه التأثيرات التي زادت من نمو الوعي الوطني والقومي والوعي بمكانة العراق الدولية بين العالم المعاصر .
في الفن المقامي .. استخدم المؤدون المقاميون وعلى رأسهم محمد القبانجي في نتاجاتهم المقامية التي سجلوها بأصواتهم منذ العقد الثالث من القرن العشرين ، اسلوباً غنائياً جديداً يتسم بالبساطة والوضوح والسهولة والحيوية ، بديناميكية أدائية قوية التماسك في علاقاتها اللحنية يكاد أن يخلو من أي تكليف .. مع وضوح في نطق الكلمة المغناة وفهمها ، وقد سمح هذا الاسلوب في الاداء – الذي أمسى اسلوباً ادائياً يحتذى ، وطريقة ادائية شاعت في الاوساط المقامية بـ ( الطريقة القبانجية ) التي استطاعت ان تبز كل الطرق الادائية السابقة التي كانت اخرها ( الطريقة القندرجية) واصبحت هذه الحقبة من التغيرات والتحولات تصف الكثير مما يعنيه الاداء المقامي ، كما سمحت أيضاً بالكشف عن شخصية المؤدي وقيمته الفنية في الاداء .. وفي هذه الحالة ، يكون القبانجي قد توخى الصدق في تصويره للحقائق التعبيرية ، وانعكاسات الحياة الثقافية في البلد … ويتضح ذلك في الكثير من تسجيلاته الصوتية الغنائية الشهيرة التي خلفها لنا هذا المطرب الكبير مثل مقام الابراهيمي ومقام المنصوري ومقام البهيرزاوي ومقام الحسيني ومقام المخالف ومقام الرست وغيرها الكثير … ففي مقام الابراهيمي . وهو المقام الشهير الذي غناه القبانجي ضمن أولى المقامات التي سجلها بصوته أوائل العقد الثالث .. الذي حفل بنجاح كبير وصدىً هائل بين الاوساط المقامية والجماهير عامة بأسلوبه السهل الممتنع الذي أثار به الاوساط ليصبح فيما بعد احدى السمات الرئيسة لغناء المقامات العراقية في خضم حقبة التحول وماتلاها ، ويمكننا ان نستمع إلى مقام الابراهيمي المؤدى بهذا الزهيري .
فجر النوى ياعاذل تجـــلى اوطار
جنهم جفوني ولامنهم كضيت اوطـار
جسمي خوة والعكل مني تنحى اوطار
|
من شفت حاوي الرجايب سار لولاهن
بضمايري جــادرت لحشاي لولاهن
المزعجات الليـــالي الشوم لولاهن
|
ماجان عاف الكطة طيب المنام اوطار
|
أما في مقام المنصوري المؤدى بالقصيدة التي مطلعها..
كيف يقــوى على الجــفا مســتهام عنــك لــم يلــــــهه نديــم وجـــام
فيظهر القبانجي فيه نموذجاً اخلاقياً تربوياً وطنياً ، فقد عبر القبانجي في هذا المقام بكل صدق وتلقائية عن محنة العراقيين ومصيبتهم التاريخية في الفترة المظلمة التي تلت نهاية العباسيين – غنى هذا المقام رغم كل الحزن الواضح في تعبيراته ، إلا أن اسلوبه الادائي الجميل كان في غاية الشجن والتطريب . حيث يبرز الصدق في أدائه ، كراو ٍ يتأمل التاريخ ، يتأمل ما يجري من أحداث وهو لا يخفي حزنه وألمه لما خطه القدر ورسمه في لوحة التاريخ التي لا دخل للفرد ولا للمجموع في التأثير والتغيير ، بل هي لوحة تتجرد من الأحاسيس والانفعالات وتتنكر للعواطف التي قدرت لهذا البلد ..
(5)
تأثيرات القبانجي
من ناحية اخرى ، فقد كان القبانجي حتى قبل شيوع طريقته الأدائية ، مؤثراً في الكثير من اقرانه المؤدين ومنهم المؤديات من النساء ، فنجد أن صدِّيقه الملايه التي عاصرت القبانجي والتي تكبره بسنة واحدة ، قد تأثرت بأسلوبه الادائي الرخيم في تسجيلاتها المقامية رغم خصوصية أسلوبها الادائي المستقى من تجارب السابقين من المؤدين .. مثل مقام البهيرزاوي ومقام المدمي ومقام المحمودي وبعض الاشعار والابوذيات الاخرى التي سجلتها بصوتها للشركات الاجنبية في نفس الزمن الذي سجل فيه القبانجي وغيره لهذه الشركات .
الاداء عند صدِّيقه الملايه ومن تأثر معها بالقبانجي مبكراً .. نموذج للاداء المقامي المعاصر لتلك الحقبة التي عاشوها .. وعليه نستطيع أن نقول غير جازمين .. بأن صدِّيقه الملايه هي اول من شيد نمط الاداء المعاصر لحقبتها الذي سعت الى تصويره المغنيات المقاميات الاخريات ممن عاصرنها او من جئن بعدها كل في حقبتها .. لذا فأن تسجيلات صديقه الملايه وتسجيلات من عاصرنها مثل تسجيلات سليمه مراد وسلطانه يوسف وبدريه أنور وجليله أم سامي وغيرهن .. قد مهدت وساعدت على تبلور البدايات الاولى للتجربة النسوية في غناء المقامات العراقية .. كأداء غناسيقي يصور المشاعر والرغبات واحداث الحياة الخاصة والداخلية للنساء بصورة خاصة تفاعلاً مع الحياة الجديدة بصورة عامة .
لم يقتصر اسهام القبانجي وكل معاصريه ، على تجسيد حقبة التحولات الذين عاشوا في قلبها واعماقها في تسجيل بعض المقامات ، واسهم الجميع ، رجالاً ونساءً بالكثير من التسجيلات الغنائية للمقامات التي يكاد القبانجي ان يكون قد سجلها جميعاً .. فقد ساعدت هذه التسجيلات كلها على التمهيد للاستيعاب الجماهيري الاوسع من أي وقت مضى لسماع غناء المقامات العراقية .
(6)
بعض انجازات التجربة النسوية
من ناحية اخرى ، يمكننا القول فيها ، ان تجربة الاداء النسوي للمقامات العراقية في حقبة التحولات ، قد حققت انجازات فنية هي الاخرى ، لعبت دوراً فاعلاً في دعم الفن الادائي للمقامات العراقية وتنميته ، فقد تحررت المرأة من احتكار الرجل للاداء المقامي منذ تبلوره كفورم غناسيقي ، وقطعت المرأة شوطاً طيباً في التعبير عن مكنوناتها التأملية من خلال هذه التجربة الادائية التي اخذت في الاتساع بمرور الزمن .. كما طرأ تطور في اللغة الادائية .. إذ اتجه الاداء المقامي إلى اللغة البسيطة والواضحة في التعبير والبناء الفني السهل .. ولعل من أهم انجازات المرأة في أدائها للمقامات العراقية التي حققتها ، هي مقدرتها على أن توقظ الرغبة في سماع التراث الغناسيقي المقامي .. واسهمت في مضاعفة عدد الناس الذين اصبحوا يهتمون بالمقام العراقي وبالغناسيقى التراثية على وجه العموم من خلال أصواتهن كنساء .
(7)
المقام المصنوع
إلى جانب ما أنجز من تطورات ايجابية في الغناء المقامي في حقبة التحول ، ظهر في نتاج التسجيلات المقامية في الحقبة التي تلت حقبة التحول وهي ( حقبة التجربة ) الواقعة عند انتصاف القرن العشرين ، وكذلك في ( حقبة النضوج ) وهي الحقبة التي تقع في العقود الاخيرة من القرن العشرين .. ظهر الاعداد التنظيمي في غناء المقامات وهو ما اسميته بـ – المقام المصنوع – وهو المقام المعد اعداداً غناسيقياً فكريا فنياً جمالياً ، وبهذه الاتجاهات الجمالية الفنية التطورية .. اكتسب المقام العراقي نسبة جيدة من فنية الاداء بلهجة عصرية في صدق وشمول ، ويمكننا ان نلاحظ ذلك في التسجيلات المقامية لمؤدي حقبة التجربة وحقبة النضوج ..
خلاصة القول .. ان حقبة التحول في الفن الغناسيقي عموماً ، وفي الفن المقامي خصوصاً .. الواقعة في اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .. تحوي بداخلها قسمين مهمين في هذه التحولات .. فالقسم الاول نعني به الفترة الزمنية قبل ظهور جهاز التسجيل الصوتي والقسم الثاني عند ظهور هذا الجهاز الخطير واثره البالغ في التطور الفني .. الذي من خلاله استطعنا بشكل أو بآخر ان نتحدث عن قيمة الاداء الذي سبق عصرنا الحالي ..
القسم الاول تبلورت فيـه طرقـاً ادائية مقاميـة مختلفة ، منذ طريقة احمد الزيدان – الطريقة الزيدانية – حتى طريقة رشيد القندرجي – الطريقة الرشيدية – إلى طريقة محمد القبانجي – الطريقة القبانجية – وباقي الطرق الاخرى الاقل تأثيراً .
فبالنسبة إلى الطريقة الزيدانية ، فقد استمعنا إليها من خلال تلامذتها امثال المطربين جميل البغدادي وعبد الفتاح معروف وجميل الاعظمي ويوسف كربلائي ونجم الشيخلي … لأن مؤسسها احمد الزيدان لم يكتب له القدر أن يدرك عصر التسجيلات الصوتية .. ويقال انه سجل بعض المقامات ، لكنها الان مفقودة أو غير مفهومة على الاطلاق .
أما طريقة رشيد القندرجي (الطريقة القندرجية) وطريقة محمد القبانجي (الطريقة القبانجية) فقد ادركتا القسم الثاني من حقبة التحول حيث بدأ عصر التسجيلات الصوتية … وعموماً فان القسم الاول أي قبل ظهور جهاز التسجيل الصوتي ، تكون الطرق الادائية قد تبلورت واكتمل عودها حتى واجهت القسم الثاني من حقبة التحول وظهور جهاز التسجيل الصوتي .. ومن ثم تسجيل الكثير من المقامات لمؤدين كثيرين عكسوا ما حصل من فن أدائي للمقامات العراقية من حقبة التحول كلها ، ويمكن اعتبار القسم الاول من حقبة التحول ، فترة تحضيرية لتجميع القوى رغم عدم بلوغها علواً فنياً ولكنها بلغت علواً كبيراً في الشكل والمضمون المقامي .. وهي السمات التي صارت ميزات عامة للاداء المقامي في القسم الثاني من حقبة التحول والحقب التي تلتها .. ومع ذلك كانت ثمة إنجازات جيدة وهامة في القسم الأول من هذه الحقبة حيث كانت لها اهميتها بالنسبة لاداء المستقبل .. والتي كان في مقدمتها الكشف عن تأدية المقامات بأصول دقيقة من حيث الشكل المقامي ومضمونه التعبيري ، ومن ثم تحديد الاسس المقامية الشكلية ليأتِ القسم الثاني من حقبة التحول عند ظهور جهاز التسجيل الصوتي ليوصلنا إلى أوسع الآفاق الجماهيرية والآفاق المستقبلية . |