|
|
في ذكرى رحيل ناظم الغزالي |
|
|
|
|
تاريخ النشر
15/10/2009 06:00 AM
|
|
|
فكتور سعيد غانم
كثيراً ما تناقلت الألسن بحثها الدؤوب عن سر الجماهيرية الواسعة التي حظي بها الفنان العراقي الراحل ناظم الغزالي، تلك الشهرة الواسعة التي امتدت إلى كافة أرجاء الوطن العربي بعد أن فاضت بسحرها داخل العراق. والحقيقة أن أغلب ما كتبه النقاد وأكثر ما جاءت به آراء الفنانين وتحليلاتهم حول هذا الفنان الظاهرة، تناولت العديد من الجوانب والميزات المهمة التي كان الغزالي يتمتع بها، مثل، ذكاءه، حضوره المؤثر، إجادته لأغلب المقامات، القرار والجواب، ثقافته الموسيقية والفنية والعامة وغيرها الكثير، واليوم، نحاول أن نسلط الضوء على ميزة أخرى امتازت بها أغاني الغزالي، ألا وهي الإيحاءات الدافئة التي كانت وما زالت تحرك في ذهن المستمع إشارات وصور وقصص فتحت القريحة العراقية المتفكه على وسعها لتعيش مع الأغنية لحظات دافئة أيضاً. فترة زمنية عراقية لم يكن فيها نوادي أو ملاهي أو حتى أماكن عامة تُمكِّن الحبيب من رؤية أو مقابلة محبوبته. كان الزقاق أو الشارع هما البديل المتاح الذي يروي ظمأ العاشقين، إن حالفهم الحظ وأطلت الحبيبة من الباب أو الشباك ليحضى المترقب بنظرة أو ابتسامة قد يعيش عليها أياماً، فالزقاق والشارع والشرفة وفلقتي الشباك المشرعتان، كلها صور يختزنها ذهن الحبيب وهي تجسد ملامح محبوبته ودلالها. من هنا تأتي أهمية أغنية ناظم الغزالي الشهيرة ” طالعة من بيت أبوها ” في إثارة مخيلة المستمع عن طريق الإيحاءات المثيرة للمشاعر العاشقة. إن صورة الفتاة المنفلتة بجسدها من إطار باب دارها كي تخطو بعض خطوات لتدخل بيت الجيران قاطعة مسافة لا تتعدى بضع أمتار، أي بزمن قصير يحسب بالثواني، تتضمن العديد من الحركات والألوان والرسائل الدافئة، العباءة وطريقة ارتدائها، النظرة الجانبية وهي تطلق سهامها صوب المحبوب، الابتسامة التي تطلق فراشات الربيع داخل روح العاشق بغض النظر عن اختلاف الفصول. صور جميلة ومؤثرة لكننا نكتشف بأنها لا تروي ظمأ الشاعر وبالتالي المطرب فيذهب إلى أبعد من ذلك ليمنح المستمع بعداً جسوراً آخر، حين يعترف المطرب بأنه كلم محبوبته وغازلها، فيقول معترفاً: قلت لها يا حلوة أرويني .. عطشان مَيَّه اسقيني ” ثم يوغل باعترافه ليبوح بأخطر من ذلك حين ينقل الكلام على لسان حلوته فيقول: ” قالت لي روح يا مسكين .. مينا ما يروي العطشان ” وهنا ترتفع روح المستمع المتخيل إلى سماوات خيالاتها لاهثة وراء المعنى. ترى هل هناك ماء لا يروي العطشى!؟ هو إذاً ليس الماء الذي نعرفه!! العيون وسحر لغتها، لها في أغاني ناظم الغزالي حضورها الواضح كما ولها دلالتها في لغة التخاطب بين الأحبة، ففي زمن لم تُعرف فيه الرسائل الإلكترونية أو الهواتف بعد، كانت العيون هي من تقوم بكل تلك الوظائف، لذا فلقد أغرق ناظم الغزالي أغانيه بالكثير من المعاني والحركات والإشارات التي كانت تطلقها عيون العشاق في مشاهد مصورة بدقة تظهرها تلك الأغاني. ففي أغنية ” طالع من بيت أبوها ” يقول: ” قلت لها يا حلوة ارويني .. على عيونك فرجيني “، وفي أخرى يشكو ويعترف: ” مَرَّو عليَّ الحلوين وعذبوني .. نظرات تهيم الروح بيها سبوني” ، وفي الثالثة يقول: ” بالوجنة أجني الليل .. بالعين أسلم “، وفي أغنية ” الهدية ” يقدم الغزالي عينه وقلبه هدية لحبيبته بمناسبة عيد ميلادها: ” أطلب شما ردت مني مهجتي وعيني وقلبي “، أما في أغنية ” ما أريده لغلوبي ” يستجير بالله فيقول: ” غلوبي اجاني امنين جدد لي حبي .. ومن سحر سود العين دخلك يا ربي ” ، أما في قراءته لرائعة البهاء زهير فقد أنشد الغزالي: ” لا يُمكنُه الكلامُ لكنْ .. قد حمـَّل طرْفـَه رسـائل ” ثم أغنية ” يم العيون السود ” والكثير من الأغاني التي تتغزل بالعيون ورسائلها. ومن أجل أن لا نغفل هذه الأغنية الجميلة أو نمر عليها مرور الكرام، أي أغنية ” يم العيون السود ” وتأثيرها الساحر في نفس المستمع، فقد حملت إشارة جريئة لا تخلو من المغامرة، فالأغنية تقول في مطلعها ” يم العيون السود ما جوزن أنا .. خدك الگيمر أنا أتريگ منه ” وعلى الرغم من أن كلمة ( أتريگ ) هي في حقيقتها كلمة صعبة جداً ولا يمكن لشخص أن يفكر بإدخالها في أغنية، إلا أننا نجد أن تلك الكلمة الصعبة وقد صارت مرتكز الأغنية ومفتاح حلاوتها والتي عن طريقها وبسببها شحذ العراقيون تفكههم وخيالاتهم الخصبة. ففكرة الإفطار بوجنة ملائكية الملمس والشكل، فكرة لا تخلو من الخبث والدهاء اللذيذ. ترى هل كان المعني بالأغنية يعد حبيبته بعضة دافئة تدغدغ مشاعرها، أم بقضمة تفاحة جسدها مع ساعات الصباح الندية الأولى؟ المفردات العراقية في أغنية ” يم العيون السود ” لها أكثر من دلالة وأعمق من تصور، التنّور، الرغيف الساخن، الباب، الفستان وغيرها. ” لابسة الفستان وگالتي أنا .. حلوة مشيتها دا تمشي برهدنه ” هنا رمى الغزالي بخياله عباءة الفتاة جانباً فصورها داخل ذهن المشاهد بجسدها الرشيق تخطو خطواتها بغنج متجهة نحوه. تلك الأغاني بكلماتها وصورها الشعرية المترعة بالدعابة المحببة كانت في نظر المستمع مشاهد سينمائية يتخيلها كما يشتهي لتشحذ في مخيلتهِ ذكريات وصور جميلة طالما بقيت دافئة في ذهنه. وبمناسبة الوصف الجميل لخطوات الحبيبة، الخطوات ( المتردهنة ) في أغنية ” يم العيون السود “، تغزل الغزالي أيضاً في أغنية ” يا ابن الحولة ” بخطوات الحبيبة ولكن بجرأة أكبر حين قال ” ما شفت مثلك بالعالم أبد .. عالمودة تمشي شوية يا ولد ” وهنا إشارة إلى أن الحبيبة – رغم أنها جاءت بصفة المذكر – تخطو خطواتها بطريقة متصنعة الدلال والغنج، وما كلمة ” المودة ” سوى تعميق واضح للمعنى، وللأسف فلم يتسن لنا معرفة مودة المشي في ذلك الوقت ولا حتى في أيامنا هذه!! يمتلك المطرب ناظم الغزالي من الذكاء ما لم يمتلكه الكثير من المطربين، وذكاءه ذاك كان يتضح في نقطتين، الأولى، اختيار الكلمات والأبيات الشعرية التي تؤثر بالمستمع وترسخ في ذهنه دافئة تدغدغ مشاعره على الدوام. والثانية، دراسته المسرحية التي وظفها في الغناء مستخدماً طريقته الخاصة في التعبير ليمنح الكلمات دلالاتها الواضحة، بالإضافة إلى الوضوح عند مخارج الحروف وثباتها. والتعبير المسرحي الذي كان يستخدمه الغزالي من خلال صوته يظهر واضحاً في أغنية ” أحبك ” التي يؤديها بتوسل ودلال واضحين، وتلك الطريقة في التعبير لا يتقنها سوى الممثل المتمكن أو المطرب الذي يعيش أجواء أغنيته بكل جوارحه. والجدير بالذكر أن هذه الأغنية تتمتع بشعبيتها الواسعة لما تحمله من دعابة اكتشفها العراقيون ليبعثوا رسائلهم المشفرة حيث الحبيب، خصوصاً في البيت الأول من الأغنية أو المذهب الذي يقول ” أحبك وأحب كلمن أيحبك .. وأحب الورد جوري عبنه بلون خدك ” هذه الإشارة كانت النساء تغازل بها أزواجهن وهن يداعبن أطفالهن، أو تلك التي تحمل طفلاً على ذراعها لتمر بجانب حبيبها وتسمعه تلك الكلمات وكأنها تلاطف الطفل. حين كان الغزالي يغني البستات الشائعة بعد أداء المقامات، كان حريصاً على إضافة بعض الكلمات أو الأبيات الجديدة التي تحتوي على مفرادات أو إيحاءات تهيج في روح المستمع صور تحمل الكثير من التأويل الممتع، ففي البستة الشهيرة ” يا خشوف ” بدَّل الغزالي كلمة ” الدورية ” بكلمة ” الفختية ” فقال .. يا خشوف العلى المجرية .. ابنكم فزَّز الفختية ” وهذا التبديل الجميل بالكلمة أعطى بعداً آخر للمعنى، فتحولت الصورة من أجواء الليل والزقاق ودورية الحراس، إلى مكانٍ آخر قد يكون حديقة الدار أو باحته حيث نخلة الدار، ولنا الحق أيضاً أن نتصور المعنى المقصود في كلمة ” الفختية ” بأنها الفتاة الكاعب التي لم تعرف العشق بعد. ففي أغنية أو بستة ” بنية ويا بنية ” غنى الغزال وقال: ” بهذاك الصوب لاگني فخاتي .. خذن عقلني ونَسنَّي عباتي .. “. أدخل الفنان ناظم الغزالي من خلال أغانيه الكثير من المفردات والألغاز والإشارات إلى اللهجة العراقية المحكية، وصار العراقيون يتناقلوها بتحبب ودلال، مثل ” الرگبة مرمر “، ” يمشي عالمودة “، ” أحبك وأحب كلمن يحبك ” وغيرها الكثير. رحل الفنان ناظم الغزالي في 23 من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1963، تاركاً إرثاً غنائياً وموسيقاً عراقياً وعربياً أصيلاً يشار له بشغف الروح الحالمة بصور تلك الإيحاءات الدافئة التي تكتنزها مخيلة وذكريات العاشقين، ويبقى الغزالي مطرب الأغاني العراقية الدافئة ذات النكهة البغدادية ودعابتها الساحرة، كما ويبقى من أهم قارئي المقام العراقي، فهو من نشر بحلاوة صوته وحرصه النبيل أساليب هذا الفن الجميل وأصالته إلى كافة أرجاء العالم.
|
|
رجوع
|
|
|
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| |
|
|
|
|
|