المقاله تحت باب في الموسيقى والغناء في
22/11/2009 06:00 AM GMT
قارئ المقام العراقي رشيد ابن علي بن حبيب بن حسن2 والملقب بالقندرجي والذي تربع على عرش قراءة المقام في النصف الأول من القرن الماضي والذي كان له ثقلا وحضورا كبيرين في الأجواء الموسيقية التي كانت شائعة في بغداد في تلك الفترة. إن عملية الحصول على معلومات موثقة وأمينة عن حياة هذا الفنان الكبير, تجابه بكثير من الصعوبات أمام الباحث بسبب شحت المصادر وقلت المعلومة الصحيحة وتضارب الروايات التي يمكن الرجوع إليها فعندما يضع الشيخ جلال الحنفي مكان ولادته في محلة سبع ابكار3 في بغداد يضعها الحاج هاشم الرجب في محلة العوينة4 , ويخبرنا العلاف في كتابه الطرب عند العرب عن ولادته عام 1887 من أبويين فقيرين حالتهما الاجتماعية لم تساعدهما على تربيته تربية ثقافية فلم يدخل المدارس فبقى أمياً وتعلم في إحدى المعامل البغدادية مهنة صناعة الأحذية والتي عُرِف بها5. وتمشياً مع ما هو متعارف عليه عند المؤرخين من إعتبار أن القرن العشرين يبدأ مع نهاية الحرب الكونية الأولى6 أي عام 1918, لذا نرتئي أن نقول بأن الوعي الموسيقي لرشيد القندرجي تكّون ونشأ في عصر موسيقى هو إمتداد للوعي الموسيقى الخاص بالقرن التاسع عشر, إن معرفة ذلك والتوقف عنده لهُ من الأهمية كما سيأتي لاحقاً في دراستنا هذه. ولا نعرف على وجه التحديد البدايات الأولى لهذا الفنان سوى ما ذكرهُ الشيخ العلامة جلال الحنفي من أن رشيد كان وهو صغير حدث يحضر مجالس احمد الزيدان حيث يُغني في بعض المقاهي العامة فقد كان رشيد يجلس تحت التخوت التي كانت عالية يوم ذاك فينصرف بذهنه وروحه إلى النغم وما يعرض له من تصرفات وأطوار فيحفظ ذلك بكل حرص وانهماك7. وتأييدا لما ذهب إليه الشيخ جلال الحنفي أعلاه من كون أحمد الزيدان كان أستاذا لرشيد القندرجي, وجدتُ أكثر من تأييد لهذه الحقيقة عند خبراء أخريين للمقام العراقي كهاشم الرجب وقوجمان وكذلك العلاف. وعلى ذمة هاشم الرجب بأنه قد أخذ المقامات العالية كالأبراهيمي وغيرها من أحمد الزيدان ومقامات التحرير عن روبين بن رجوان وخليل الرباز وصالح أبو دميري وغيرهم8 .
وأحمد الزيدان ألبياتي (1832-1912) هذا كان يمثل مدرسة من ثلاثة مدارس9 أو اتجاهات ذات اصول راسخة وتقاليد عريقة وذات بعد زمني ليس بالقصير في تاريخ قراءة المقام العراقي ولربما تشكلت خصائص و ملامح هذه المدارس في نهاية القرن الثامن عشر واكتملت خلال أو عند نهاية القرن التاسع عشر , وكان لدى أحمد الزيدان ندوة فن يجتمع بها في أحد المقاهي البغدادية وهي مقهى (( مجيد كركر)) في محلة الفضل كانت هذه الندوة بمثابة مدرسة أو أكاديمية لتدريس أصول المقام لطلاب وعاشقين هذا الفن10. على أن ما تركهُ رشيد القندرجي لنا من تسجيلات موسيقية لأغلب المقامات العراقية تقريبا تعد في حد ذاتها مصادر مهمة, يمكن الرجوع اليها بثقة تامة, لمعرفة جوانب كثيرة عن أسلوب قراءة المقام العراقي, وكذلك معرفة سير الخطوط اللحنية للعديد من التحارير والاوصال والقطع الداخلة في تراكيب هذه المقامات.
تميز أسلوب قراءة المقام العراقي لرشيد القندرجي بإستخدام ما يسمى في لغة أهل هذه الصنعة بالزير أو الصوت المفتعل ( الانكليزية falsetto , بالألمانية Kopfstimme) وهو أسلوب لربما يلجئ إليه قراء المقام في تلك الفترة لتغطية الضعف الكامن في الصوت المؤدي للمقام عن الصعود بالصوت الطبيعي الى حدود عالية لا يمكن للصوت الطبيعي الوصول إليها, وباستخدام هكذا تقنية يتحقق للصوت المؤدي الصعود ما مقداره ديوان موسيقي واحد ( Octave ), علماً بأن هكذا نوع من تقنية الغناء كانت متواجدة في الغناء الأوربي وانحسرت واختفت نهائياً بعد ظهور فن الأوبرا في القرن السادس عشر. والمتأمل والسامع لمعظم تسجيلات رشيد القندرجي يلاحظ تسلّط وتسيّد هذا الأسلوب في قراءة المقام , والحال إن استخدام هكذا إسلوب يؤدي إلى طغيان المسارات والخطوط اللحنية الموسيقية الداخلة في تراكيب هذه المقامات على حساب الكلمة والنص المغنى وتصبح عملية الغناء والنطق مبهمة وغير واضحة المعالم والغناء في أكثر الأحيان أشبه بالولولة . على أن تميز رشيد القندرجي بهذه التقنية في قراءة المقام قد ارتبطت كصفة مُلازمة لهُ ,ولم ندرك نحن محبي ومستمعي المقام العراقي من هذا الجيل من وجود قرء أخريين لربما كانوا يستخدمون هكذا نوع من التقنيات عند قراءة المقام, وعند مراجعتنا لأغلب تسجيلات الأستاذ رشيد القندرجي وخصوصاً البستات منها لاحظنا بأن قسم من الرديدة أو المذهبية المرافقين للأستاذ رشيد القندرجي يستخدمون ذات الأسلوب في عملية الغناء وترديد مذاهب البستات بأسلوب الزير( مثال ذلك في البستات المرافقة لمقامي المسجين والمدمي ) ,ومن المعلومات التي حصلنا عليها من أن قارئ أخر للمقام كان يستخدم هذه التقنية عند قراءة المقام الا وهو اسرائيل ابن المعلم ساسون بن روبين (1842 - 1899 )11 مما يؤكد تواجد هذه التقنية في قراءة المقام العراقي لفترة زمنية سابقة لفترة رشيد القندرجي , ولكننا وللأسف لا نستطيع على الأقل في الوقت الحاضر تقييم قدم إستخدام هذه التقنية عند قراءة المقام العراقي.
ولعل المتابع لحركة سير تاريخ المقام العراقي من أن يقف قليلاً وأن يسأل ويستفسر عن سبب انحسار واختفاء هذه الطريقة ( الزير ) في قراءة وغناء المقام العراقي بعد أن كان لها كما رأينا أعلاه روادها وممارسيها ؟ والجواب على ذلك في تقديري يعود للأسباب الآتية:
1. شهِد العراق وخصوصاً العاصمة بغداد بعد الحرب العالمية الأولى تغيرات كبيرة في مجالات مختلفة منها البنية الاقتصادية وكذلك النسيج الاجتماعي وخصوصاً البغدادي منه أدى إلى ظهور طبقات اجتماعية جديدة واختفاء اخرى, كذلك الهجرة من الريف إلى المدينة أضف إلى ذلك الهجرة الجماعية لليهود العراقيين 12 في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي كل هذه التغيرات أثرت وبشكل مباشر على الحالة الاجتماعية والثقافية في بغداد . ولقد كانت الطائفة الموسوية في العراق على تماس شديد بفن قراءة المقام فكان منهم المقرئين (كيوسف حوريش"1889-1975") والخبراء ( كسلمان موشي مواليد بغداد "1881" خبير المقام في دار الإذاعة العراقية ) والعازفين ( كصالح شميل مواليد 1890 , وحوكي بتو"1848- 1931" ) وكذلك مستمعين على درجة كبيرة من الفهم والادراك والتذوق لاوصول المقام ولقارئه رشيد القندرجي الذي يمثل لهم حلقة وصل وامتداد مهمة مع الموروث الموسيقي ألمقامي للقرن التاسع عشر بل وكان القارئ المفضل لدى كبار ومسوؤلي الدولة العراقية في تلك الفترة وجلهم قد تكَون وعيهُ الموسيقي أيضا في القرن التاسع عشر.
ويخبرنا قارئ المقام العراقي سليم شبث(مواليد بغداد 1908) في مذكراته13 عن سعة اتصال هذه الطائفة بالمقام العراقي بل واستخدامه خلال مراسيم الصلاة والعبادة اليهودية في بغداد والواقع أن فقدان النصوص الموسيقية للتراتيل العبرانية التي كانت ترتل في العراق ومقارنتها بالخطوط والمسارات اللحنية المتواجدة في المقام العراقي تعد من الخسارات الكبيرة جداً للدراسات الموسيقية المقارنة والتي انتهت للأسف إلى الزوال والنسيان وكذا الحال يقال بالنسبة للتراتيل المسيحية البغدادية.
2. ظهور قارئ المقام العراقي محمد القبانجي ( 1901-1989 ) كان الأستاذ محمد القبانجي أول قارئ للمقام قد تنبه إلى قيمة الكلمة المُغناة وضرورة إبرازها ونطقها بشكل سليم وواضح . والمستمع لتسجيلاته خلال مراسيم انعقاد المؤتمر الأول للموسيقى العربية في القاهرة عام 1932 يلاحظ مدى الاعتناء والحرص الشديدين على سلامة النطق ووضوح الكلمة والعبارة المغناة عند مقارنتها بتسجيلاته الأولى بل وإبرازه لقيم جمالية وتقنية في الغناء ترتبط ارتباطا متيناً في جماليات وتقنيات الغناء العربي من عهود طويلة غابرة تعود لربما لإشارات الفارابي عنها في كتاب الموسيقى الكبير14. كان لهذا التطور في قراءة المقام العراقي الأثر اللاحق على قرء المقام العراقي من أمثال ناظم الغزالي (1921-1963) وحسن خيوكة (1912-1962) ويوسف عمر (1918-1986) وحمزة السعداوي ( 1934-1995) وعبد الرحمن خضر( 1925-1985) وغيرهم من اللذين أتبعوا طريقة أستاذهم القبانجي.
3.ظهور الاسطوانة: إن ظهور الاسطوانة لعب دوراً مهماً في نشر الغناء العربي من مصري أو شامي في العالم العربي , ووصول الاسطوانة في الربع الأول من القرن العشرين إلى العراق15, هيأ للفنانين العراقيين التعرف على أساليب الغناء والموسيقى الموجودة في هذه الأقطار, ومحاولة التشبه بها وأخذ ما هو ممكن منها, فهناك أكثر من دليل على تأثر الفنانين العراقيين من قارئين مقام كالأستاذ محمد القبانجي وموسيقيين كالملحن وعازف الكمان الموهوب صالح الكويتي بالموسيقى والغناء المصري. يقول الشيخ جلال الحنفي (( ومن بعض اعتراضاتنا ولوع القُبنجي بالتموجات المشابهة أو المحاكية للغناء المصريّ فلقد كنّا نعدّ ذلك تغنُجاً لا يليق بالمقام العراقي لأنهُ يفقدهُ بغداديته ))16.
ومهما يكن الأمر من شيء, فلقد كان الفنان رشيد القندرجي متمكناً من إستخدام هذا الأسلوب , ومثالا على ذلك عند سماعنا لمقام النوى لهذا الفنان المبدع فهو يسترسل عند تحرير مقام النوى والقطع والاوصال لحد الميانة الاولى لهذا المقام بإستخدام الصوت الطبيعي ( آلاجغ ) ومن ثم يغيير طبيعة الصوت الى ما يسمى بالزير للصعود ومن ثم وبراحة ويسر كبيريين وبأمكانية الأستاذ المُتمكن يرجع الى الصوت الطبيعي لعمل التسليم . أن عملية الانتقال من وضع طبيعي للصوت المنتج إلى وضع أخر وهو ما أشرنا اليه بإصطلاح ( الزير ) وبالعكس تنم عن مقدرة وكفاءة عالية كان يتمييز بها المقرء رشيد القندرجي. إن هذا الموضوع يقودنا الى موضوع أخر الا وهو التمكن التام من امتلاك ناصية ومسالك النغم والسيطرة المطلقة على المسارات اللحنية للمقامات العراقية فأن ماهو شائع ومتداول عن أن رشيد القندرجي قد قرء مقام الأبراهيمي بأربعة وعشريين شعبة متفوقاً على أستاذه أحمد الزيدان والذي غناه بأربعة عشر شعبة17 وللحقيقة لا بد من التقصي والبحث عن إمكانية وجود هكذا تسجيل لهذا المقام بصوت رشيد القندرجي متضمناً الأربع والعشريين شعبة . ومهما يكن الأمر من شيء فعند سماعنا لتسجيلات هذا المُقري الفذ لمقامي الحليلاوي والباجلان, ومن المعلوم بأن هذيين المقامين متشابهيين لدرجة كبيرة جدا نجد أمكانية السيطرة المطلقة على النغم في تحديد هوية وشخصية المقامين المذكورين, علماً بأن ما متعارف عليه من أن هذا الفنان كان لا يقرأ النوطة الموسيقية أو العزف على آلة موسيقية, أضف إلى ذلك اتساع دائرة معرفته بالمقامات العراقية و تمكنه من أداءها وتسجيلها جميعاً18, كما ويعتبر لدى خبراء المقام العراقي من الطبقة المتقدمة من قارئ المقام . إن إبراز الشخصية أو النكهة البغدادية في قراءة المقام لدى هذا الفنان تبقى سمة متميزة, وصوته الطبيعي شجي وذو عذوبة نادرة يساعد على إبراز هذه الشخصية, ولو قُدّر لهذا الفنان إمتلاك مدى واسع وعريض في حنجرته يُغنيه عن إستخدام الصوت المفتعل ( الزير ) لربما ترك لنا من رصيد تسجيلاته الشيء النادر والعجيب.
كان الفنان رشيد القندرجي أميناً على ما قد تعلمه من اساتذتهِ وما هو متوارث عند قراءة المقام, لذا يصلح أن نقول بأنهُ كان رائداً لمعسكر المحافظيين من قرء ومعجبي المقام العراقي والتي كانت ترى أي خروج عن أصول ما هو موروث ومتبع بمثابة جُنحة كبيرة لا تُغتفر, وعلى ما يظهر بأن هناك نوع من التوتر والتشاحن قد حصل بين هذا المعسكر والتجديدات التي كان يقوم بها مقُرء المقام العملاق محمد القبانجي, فلقد كان القبنجي متمكناً من قراءة جميع المقامات, وبحكم الأستاذية ومنحى روح التطور والموقع الاجتماعي المتميز الذي كان يتميز بهِ الأستاذ محمد القبانجي عن أقرانه من قراء المقام, راح يجدد ويضيف ويخلق مقامات لم تكن متداولة في ساحة قراءة المقام في ذلك الوقت لدرجة بأن رشيد القندرجي أشتكى من ذلك بمقولته (.. إن القبانجي بدأ يغني حسب مزاجه مقامات ليس لها وجود ولم نسمعها من أساتذتنا.)19. يقول خبير المقام العراقي الشيخ جلال الحنفي ( ...لقد كانت فكرة التَجديد في المقام قد علقت بذهن القبنجي وجالت في مدار رغبته بعد عودته من مؤتمر القاهرة عام 1932 فوجدت نظرته هذه لدى القوم معارضةً شديدة وأنشأت بينه وبين مشاهير قراء المقام العراقي من جماعة ( أحمد الزيدان) خاصة خصومةً بلغت أقصى درجات الحِدة, ....., وقد حاولت أن أجمع بين ( رشيد القندرجي) وبين ( محمد القبنجي ) فأعياني ذلك, ) 20 لكن رغم ذلك كانت للأستاذ رشيد القندرجي تجديداته وإضافاته المتميزة في ما هو متوارث من هذا الفن الجميل وعلى ذمة الحنفي انه أدخل نغمات العمر كله و المكابل والقريه باش والعلزار في مقام الحديدي وأدخل في مقام الكلكلي نغمة السيرنك ونغمة العلزبار وأدخل في مقام الطاهر نغمة من العجم ومن الحسيني وأدخل نغمات كثيرة في مقام الإبراهيمي21.
وهروباً من النكران الفني والفقر المادي العائلي والشخصي والعقوق الاجتماعي ومن فرط حساسيته ورهافتها عمد إلى الكحول لتهدي همومه وتسكن مواجعه, عُين خبيرا للمقام العراقي في دار الإذاعة العراقية ببغداد إلى يوم وفاته22 وذلك في 8 آذار عام 1945. إن عملية رد الاعتبار لهذا الفنان وجمع تراثه الغنائي وإعادة تسجيله بشكل يتناسب والتطورات التكنولوجية الحديثة تصبح من المهمات الضرورية جداً بل من أولى واجبات المسئولين عن الحركة الثقافية في العراق ونحن نشاهد انحسار واختفاء المقام وإن ظنت الناس بأنهُ بُعث من جديد..فانههُ لم يبعث من جديد مالم يتدارك المسئولين عن الواقع الثقافي في العراق أمر الاعتناء به وتدريسهُ بشكل منهجي ونظامي وإعادة تسجيل جميع التراث ألمقامي لحفظ هذا التراث وجعله مُتيسراً للأجيال القادمة
|