المقاله تحت باب مقالات فنيه في
22/12/2010 06:00 AM GMT
يحمل المعرض الشخصي للفنان العراقي قيس السندي الذي يقيمه في قاعة "المشرق" في عمان، عنوان "الفردوس المفقود"، عبارة تذكّرنا بأن ثمة أحلاماً قليلة مشتركة في إنسانيتنا تأمل بوجود لاحق يمكن التفكَر فيها من خلاله. إلا أن الأمر مع هذا الفنان لا يتعلق بانشغالات متعالية قدر محاولته توصيف لا يخلو من مجاز، لعلاقات سابقة مع وطنه أصبحت الآن غائبة. هكذا تدلّ، في الغالب، عناوين معارض الفنانين العراقيين المنفيين إلى شيء ما، بات مفقودا. العمل الفني، بالنسبة اليهم، مكافئ بصري لما تدل عليه مفردات مثل الهجرة، النفي، الافتراق، وتتداعى عن معان محمّلة دلالات كثيفة، بغية إعادة اكتشاف عالم آخر يبسطون فيه وجودهم وتمثله من جديد.
يدرك السندي أن تجربة كهذه يمكن تحقيقها في مكانه الآخر، منفاه، الذي سمّاه عالم ما وراء البحار. انه ليس وحيدا فيه، بل تصاحبه نعوت مكثت معه في تلك الأرض البديلة، أحدها، هو الغربة. النظر إلى الفردوس هو بمثابة تطلّع إلى راهن مختلف وحاضر مغاير. هو الفردوس الذي يكاد أن يكون ارتحالا بشكل دائم وليس الملاذ الأخير. يعلم السندي أن الفراديس لا تعوّض عن الفقدان. هي، كذلك، تكملة لوجودنا. لكن الرسام فيه يكتفي بتدبير خلاصة لهذا المعنى المتعدد، حينما ينشئ علاقة ذاتية ووحيدة، تعتبر المكان معطى جمالياً قابلاً للدهشة، من اجل العثور عليه والسكنى إلى جواره. فمن مآثر الفنانين ابتكار الألفة مع العالم.
تبقى الأمكنة دالة على التعبير. إنها مجالات مفعمة بالوقائع، الأحداث، الحكايات، المشاهد، الأشياء، والبشر، وهي مشغوفة أيضا بتحولاتها، حيث ثمة رؤية تغوي الآخر بنفسها. هكذا يكون فعل المشاهدة أسلوباً للكشف عن سر هذه الغواية. انشغال يتخذه السندي كي يتيح له المعرفة بتنوعات الحضور الطاغي لعالمه الجديد. ربما، المتناقض بثنائية وجوده الواقعي: الصخب والصمت، التعقيد والبساطة، الحيادية والشغف، العنف والسلام، الفظاظة والحساسية. أوصاف وعلامات يتبادلها الآخر، موضوع النظر، مع رديفه أو مع الأشياء. إن في الأمكنة حاجات ما، تبقيها لنا، كي نستدل عليها.
كل مشاهدة تنطوي على احتمال، وتوقّع. فما نبصره هو كذلك ما نرغب له أن يكون. يلازم السندي هذه البداهة في لوحاته، من اجل اقتراح فردوسه الشخصي، درسه الحياتي، الذي لم يأبه بشرحه قدر تمثله لعوالمه. فضاء لم يكتمل بعد، وهو في صدد ابتكار ملامحه، التي تدل على مغزاه، وتشير إلى خفاياه المسكونة بحميميتها، وتكشف عن عواطف عزلاء إلا من شغفها بالتوحد. ليس لهذا الفردوس، المعنى، صفة مشتركة. انه لحظة تأمل، وهو خاص تماما، ولا يشبهه شيء.
يبقي الفنان أشكاله منتمية إلى فعل الرسم، باصطفائيته وانفتاحه على تجريبية متخيلة. يختزل أشكاله، ينزّهها من تشخيصيتها، ويهبها سمات مشغولة بخصوصية. فمثل هذه الكائنات لا تعنيه في ذاتها بل بما تتركه من اثر أثناء وجودها، ومن مشاركة دالة وتعبيرية تفصح عنها حساسيتها البصرية. بما هو متاح من إنسانيتها، بعض أسرار حريتها التي لم تكتمل بعد، توقها إلى أن تكون أكثر من فرديتها، في أن تصبح مثل أحلامها بلا تبعات. الرسامون، أيضا، تشغلهم الأمنيات الغامضة.
ملاك أتعبته الخيبة، مسافر يرحل إلى غربته، امرآة تتأمل في شوقها، عازف يؤدي بصمت، عشاق يخذلهم الاعتراف، كائنات يأسرها فعلها الداخلي. أشكال كأنها خالصة إلا من رؤيتها الجوهرية، وهي حيوات عالمه المقترح. هكذا نجد الفنان قيس السندي في تجربته الماثلة لبصيرتنا، يبوح بأسرار صنيعته عن فردوس يتوارى هناك، في البعيد الذي لا يرى.
|