المقاله تحت باب فنون عالمية في
07/09/2011 06:00 AM GMT
حين تلتقي يوزف بويز من جديد لا يخامرك شك في أنك تلتقي شخصا تعرفت عليه من قبل. بل إن فكرة (الشخص نفسه) لن تكون موجودة.
فما من شخص، حسب بويز يعيد انتاج نفسه أو يمكنه أن يكون انعكاسا مرآتيا لتجاربه السابقة. هناك دائما الشخص الذي لا نعرفه، ولم يسبق لنا التعرف عليه ولا يمكنه سوى أن يكون مبتدئا.
حتى بدلته الرمادية بدت لي جديدة. ليست هي وإن بدت هذه أكثر عتقا من تلك التي رأيتها في التيت بريتان بلندن. ولكن قبل كل شيء أجد أن علي أن اعترف أنني لم أذهب إلى برلين بحثا عن بويز. فانا أعرف ان كل محاولة للبحث عنه ستبوء بالفشل. ذلك لان بويز هو من الاشخاص الذين يحضرون بمحض ارادتهم النقية أو بالصدفة. لا يمكن استحضاره أو استعادته إلا عن طريق التخيل الهاذي. حتى صورته الفوتوغرافيه التي رأيتها معلقة على جدار في احدى قاعات أوغست شتراسه والتي سبق لي أن تأملتها مئات المرات بدت لي جديدة. قلت لزوجتي: 'يكاد أن يشبهه. بل هو هذه المرة أيضا'. ابتسمت مديرة القاعة حين استمعت إلى جملتي القلقة ومدت يدها بدليل المعرض لشخص غامض، ينبغي احاطته بالتقدير لا لشيء إلا لأنه تعرف على بويز، الذي صار ايقونة المانية معاصرة. ألا يمكننا والحالة هذه الحديث عن اسطورة بويز؟ إنه الشخص الذي جعل من تدمير عصور من الفن هدفا لحياته. الفنان الذي لم تأسره التعبيرية مثلما فعلت (لا تزال) بالاف الفنانين الالمان. عصر بويز لا يزال في انتظارنا. هذا ما تقوله أوضاع الفن في مختلف انحاء العالم، حيث لم تعد يد الفنان على ثقة من خيالها. لقد قدم بويز الفكرة باعتبارها حقيقة مثالية على أي نشاط مجاور. لا الأشكال ولا التقنيات ولا المواد ولا حتى المعاني لتحظى بشيء من الاهتمام. الفكرة هي صاحبة كل الكرم الباذخ الذي كان بويز يطوق عالمنا به. الفكرة هي الجذر الذي استمد منه بويز هوية فن سيكون دائما موضع التباس. وهو المفهوم الذي سيغير في ما بعد مزاج عصرنا الثقافي.
في كل عمل من أعماله هناك نص مفقود. من غير ذلك النص تأخذ الأمور منحى عبثيا. 'كان بويز يلهو ليكون بطلا' تلك صفعة لمريديه وهم كثر في زماننا. لقد طُرد الرجل من الجامعة لأنه أساء لمهنة التدريس وخرب المفاهيم الفنية وانحرف بالطلبة. فهل كان سلوكه يحتمل أي نوع من التسلية؟ تبدو أعماله أكثر صرامة من أن تتقبل ابتسامة طارئة. ولكن ما الذي تفعله هذه الاعمال في متحف هامبورغر بانهوف الواقع في جادة (الت ياكوب) ببرلين؟ في كل الأحوال يمكنني القول ان بويز لا يود الانتماء إلى مؤسسة فنية (اية مؤسسة) إلا إذا كان ميتا. وهو ميت منذ ربع قرن تماما (حدث ذلك عام 1986). شخص من نوعه لا يمكنه أن يعد دخول أعماله إلى المتاحف انتصارا. هو عدو لكل ما هو ثابت ومستقر ومتكرر ومنهجي (وجميل ايضا). ولكن تركته الكبيرة في مجتمعات تحترم الارث الفني لابد أن تنال رعاية من نوع خاص. وهذا ما فعلته المانيا مزهوة بابنها المتمرد والضال الذي صار بالنسبة لآلاف الفنانين حول العالم معلما، تتعسر كل محاولة لتخطيه. ولان بويز كان قد وزع نشاطه بين أنواع فنية عديدة (الانشاء والتركيب والتجهيز وفن الفيديو والاداء الجسدي وفن المفاهيم وفن الحدث والفوتو وفن الارض والقاء المحاضرات) فقد صار ملهما في اتجاهات عديدة. غير أن دعوته وسعيه المباشر لالغاء القيم الفنية التقليدية احتلا موضع الجوهر في كل بحث فني جديد. بالنسبة للكثيرين فان بويز لا يُمس. اكتسبت اسطورته قدرا لافتا من القداسة مع مضي الوقت، حيث بدأت فنون ما بعد الحداثة تُكرس باعتبارها خلاصا روحيا ومادة بصرية في عصر يُعاد تعريف هويته كل لحظة.
لقد تثاقلت خطواتي وأنا أقترب من القاعات التي خُصصت لأعمال بويز في متحف هامبورغر بانهوف. بعد أندي وارهول، بعد انسليم كيفر، بعد سي تومبلي، بعد روبرت روشنبرغ حلت لحظة القطيعة. 'لا التاريخ يشفع ولا المعرفة تنفع' قلت لنفسي وأنا القي نظرة على عمل بويز الأول الذي احتل قاعة بكاملها، وكان ذلك العمل النقيض الفاضح لأناقتها المبنية على تحسس رياضي. كتل من الحجر ملقاة بصمت على الأرض. في القاعات الأخرى عُرضت صناديقه الزجاجية وحقائبه وكتله المستلة من مواد مختلفة والواحه السوداء فيما كانت الشاشات تعرض أفلامه. ولأني رأيت أعمالا كثيرة من بويز فقد أدهشني شعور عاطفي غريب تسلل إلي وأنا أسعى إلى الاجابة على سؤال من نوع: 'ما الذي يفعله الفن بنا؟' ربما لان بويز لا يُرى مرتين كان علي أن أحتاط بقدر هائل من النسيان لكي أرى بشكل أفضل. لم يكن نافعا لي أن أؤكد لنفسي أني قد رأيت هذه الأعمال من قبل. 'لا لم أرها' قلت بعناد ومضيت إلى الدرس كمن يغفو على كراسته المدرسية حالما بسطورها. معجزة هذا الفنان تكمن في ان أعماله لا تقول الشيء نفسه دائما. شيء عظيم منها يظل مرتبطا بما لم نره منها. حتى ونحن نقف قريبا منها نشعر أن هناك مسافة تفصلنا عنها، هي أشبه بتلك المسافة التي تفصلنا عن ذواتنا. كانت قيثارته الحجرية قد ذكرتني بالبيانو الثقيل الذي صنعه من الحجر. ولأنه وضع تلك القيثارة في وضع مائل داخل صندوق زجاجي فقد شعرت بخفتها. سمعته يغني. بويز الحكاء لا يمل من رواية سيرته، حتى لو كان المستمع عبارة عن أرنب ميت. كل عمل من بويز هو حكاية. ولكن الحكاية وحدها لا تكفي لاختصار ما فعله بويز.
'بويز ميت والفن يطعن في السن'
سنكون خرافيين دائما. مع الفن ومثله مع الحياة بالقوة نفسها. هذه الاعمال يمكن أن يجدها المرء في الشارع ولا يلتفت إليها. فهي ليست مقتطعة من مادة الوهم التي يتغذى عليها الفن. الفن شيء وفن بويز شيء آخر. لقد قرر الالماني المتمرد في لحظة عصف الهامي أن يصدق ان الواقع هو الفن، ولكن ذلك الواقع لن يكون مصنوعا عن طريق الفن، بل مكتفيا بقدرته الذاتية على التخيل. ولن يكون الفن في هذه الحالة وسيطا، بل جوهر وجود. في حالة بويز لا يحتاج الفن إلى الكذب ولن يكون هدفه أن يدعو الألم إلى حفلة جمال خالص. أنا هنا أكتب بالانابة عن بويز. كما قلت هناك دائما في اعمال بويز نص مفقود. يمكننا أن ننشىء قارات من التأويل من غير أن نصل إلى اليابسة. يخرجنا فن بويز من حياتنا ليلقي بنا في سوء فهم واقعي. سنكون مستائين معه ونحن نتساءل بحسرة 'أين الجمال؟' وهو سؤال تركه بويز خلف ظهره. يوما ما سنكتشف أن سؤالنا يخون الحقيقة. المتاحف هي الأخرى تخون الحقيقة. يستحق فن بويز شيئا آخر، غير أن يكون مادة متحفية. لقد اخترع بويز (معه جماعة فلوكسس عام 1964) فنا يتشبه بالحياة من غير أن يقلدها. وهو الفن الذي صرنا نحيله إلى لحظة القطيعة مع حداثة لم يعد في إمكانها أن تخلص إلى الحقيقة. لقد انتقلنا إلى دروب ما بعد الحداثة فيما كانت حواسنا تفكر حداثويا. ألهذا يظل فن بويز عصيا؟ لا يزال مزعجا بالرغم من بساطته. حين قررت الهروب منه رأيت احدهم وهو يقفز بين أحجاره فقررت أن اقلده. بويز لقد سقطت ظلال قدمي على أحجارك. امتزج شيء مني بفنك.
|