المقاله تحت باب محور النقد في
18/10/2011 06:00 AM GMT
منذُ بواكير أعماله البرونزية الأولى التي كان أغلبها على هيئة منحوتات بارزة ( ريليف ) , إعتمد ( هيثم حسن ) الأنسان كثيمة أساس يبني عليها أعماله كونه يمثّل أعلى قيمة في الوجود , وأشتغل عليها بدأب كبير , وقد حرصَ على توكيد العلاقة الأنسانية بين الرجل والمرأة بإعتبارهما الثنائي الواعي الوحيد لأنتاج الحياة , وقد إبتعدَ عن السطوح الملساء التي تماثل الواقع الحياتي إذ تركَ هامشاً من الحرية لكتل الطين أن تأخذ إستقرارها كما تشاء على الأجساد الآدمية محتفظة بإبراز الملامح الخارجية العامّة لل ( figures ) .. وقد إحتفظ الفنان بعلاقته التواصلية مع الرائي , اذ لم ينحو منحىً تجريدياً بحتاً ينتج منها قطيعة معرفية بينه كفنان وبين الآخرين , وهو بذلك قد حقّق معادلة وجد العديد من مجايليه صعوبة في تحقيقها وهي التي يمثّل احد طرفيها الحداثة بكل تجلّياتها وطرفها الآخر يمثّل الفهم الواعي لما تقوله مخلوقات (هيثم حسن) البرونزية من قبل عين المتلقي .
ومّما يؤسف له اني إنقطعتُ عن مواصلة مسيرته الفنية بسبب تنوّع تغريب الأنسان العراقي في بلاد الشتات نتيجة الظروف العسيرة التي مرّت على العراق ما قبل وما بعد التغيير الراديكالي الذي حصل في عام 2003 , لكنّي عاودتُ اللحاق بركب مسيرته الأبداعية بعد أن إستقرّ به المقام في الطرف القصي من العالم , وهنا الحديث يأخذُ مسرباً آخر غير الذي ذكرناه آنفاً . ف (هيثم حسن) النّحات المثابر والممتلك أدواته كفنّان مبهر قادر على إنتاج الدهشة أمام مداركنا الحسيّة , أوصله بحثه الدؤوب في عوالم الأنسان السحريّة وما يعتمرُ داخله من رؤى مشاكسة إنعكست بالتالي على هيئته الخارجية وتفاصيل شكله وملامحه لم تكن مألوفة من قبل , الى تحقيق حلمه كفنان في إيجاد بصمته وإسلوبه الخاص وهو يخوض بتجربته هذه وسط لججٍ هائلة من تجارب فناني العالم .
ولعلّ ( هيثم حسن ) الفنان الوحيد الذي نجح وبإمتياز في نفخ روح النحت وروح الرسم وروح الخزف في أعماله المنتجة خلال العشر سنوات الأخيرة , وقد تمكّن من الأستحواذ على إنتباهاتنا وكأننا نشاهد بنظرات بِكر أشكالاً لم تعتاد جمالياتها وإبهارها ذائقتنا الفنية من قبل , ولم يسبق لنا أن رأينا اعمالاً تثير الأسئلة بهذا الكم , وربما لجوئه الى إستخدام مواد متنوعة وتخلّصه من سطوة البرونز وإغرائاته ساهم في ذلك ..
صحيح حينما نقف قبالة أعماله ونحن منشغلين بحيرتنا , إن هذه الكتل التي أمامنا لها ملامح آدمية لكنّها تنأى بنا بعيداً جدّاً عن المقاربات التي نسعى الى إيجادها مع الواقع المفترض .. إنها مخلوقات آدمية خاصّة أنتجتها مخيّلة ( هيثم حسن ) المنفلتة من مدارات التماثل الواقعي ... مخلوقات تتكلم وتنظر وتتأوّه وتلعن وتعشق بصمت ... مخلوقات تتجرّد من كل ثيابها وتتعرّى أمامنا , لكنّ عريها يختلف فهو يكشف ما لم نره أو نتوقّعه من قبل ... مخلوقات بارعة في إيجاد مناخات صداقية لا تفصم عراها مع كل الناس الزائرين الى صالات عرضها ... مخلوقات إستطاع (هيثم حسن ) أن يتركها تسرحُ في ذاكرتنا وأحلامنا ابداً . وقد برعَ الفنان في أن يفكّك أجزاء المفردة الأنسانية ويعيد صياغة تراكيبها من جديد ـ إضافة أو إلغاء ـ وفق رؤيته الجمالية وقراءته المنتخبة للشخصنة ، كأن ينبتُ جناحين على ظهر أحد أبطاله ليمنحه فرصة لأنتزاع قدميه من أسر أصفاد الأرض وهو بهذا يحاورُ روحه التوّاقة الى الحرية , وقد ذاق مرارة التحكّم بحياته حاله حال الملايين من أقرانه الذين طحنتهم رحى الحروب العبثية , أو يجعله يتأبّط جسد إمرأة بحرص بالغ خشية فك عرى التلاحم الحياتي بين الذكر والأنثى وهذا إنعكاس لمرجعياته البصرية الأولى , وأحياناً نراه يفرّغ المكان الذي يستقرّ به القلب ويجعله صقيلاً , وقد يريد بهذا أن يجد منفذاً يتحدّى به الوجود نفسه. وقد أشركَ الفضاء الخارجي خلف أعماله الأخيرة بحيث أصبح جزءاً مكمّلاً لها وأحياناً يبدو كأنه مشجباً يعلّق عليه همومه الأبداعية على شكل منحوتات بالغة الغرابة . إن فناناً بهذه المَلكة والروحية والمثابرة والمخيلة المستنفرة والقدرة على انتزاع إعترافات الأنسان السريّة له فقط , قادرٌ على إثارة حسّاسية المواد التي يبني منها هياكله لترينا الأعاجيب مستقبلاً .
|