وحدها الذات قابلت مصيرها بمفردها، في هذا المحترف التجريبي الكبير، وبأوضاع لم تختبرها في السابق، حيث الإحساس الثقيل بدنيوية العالم، والزمن الذي ينتقل بكثافة، والوقائع التي تتشظى. كانت المدينة موحية لرؤى شديدة الخصوصية للفنان، وليس من سبيل سوى التوحد مع انشغالاتها، من إيحاءات وصور مشتهاة، معارض، صالونات، ومقاه. صخب عالم مديني بكر، وكذلك فضاء للاغتراب والعزلة. في خضم هذا التطاحن كانت الذات تتمثل نفسها كي تكون موضوعاً فنياً وجماليا أكثر مغايرة. لكن على عتبات ذلك القرن، ما قبل بداية الحرب الأولى وإثناءها وما خلّفه رعب خنادقها، كان شعورها بالخشية قائماً من صعوبة تحقيق حريتها التي تخيلتها. لقد باتت مكرهة على تنفيذ ادوار من اجل حياة تزداد فيها سطوة التقنية ونزعة الأداء الوظائفي وخبث السلطة. كانت وكأنها غاية روحية حبيسة. لم تعد مشاهد الحياة اليومية البهيجة كافية. لقد تم التعويض عنها بشحنات كامنة، باستعارات خفية من الإحساس بالوحدة، وباهتمام أكثر للتخيل ولطوباوية المشاعر، وباستيعاب حزن الواقع اليومي لغرض التحرر منه والتفوق عليه. وكان فن الصورة الشخصية موهوباً لعين تتواطأ مع خيال غامض وحزين، بل يكاد أن يكون سيرة شخصية عن ذوات ملتاعة في عزلتها. فمن داخل محترفاتهم الشخصية التي عادوا إليها، بعدما هجرها الانطباعيون، صار الفنانون ينظرون إلى العالم بعدم اليقين. كانت مظاهر رؤيتهم وأشكالها تتمثل بوقائع العاهرات، والمهرجين، والضجيج، والوحدة، والقبح، والمرض، والعتمة. كان ثمة توسل يفيض على حدّه لكل ما هو شعوري ووجداني. نظر النقاد بحذر الى نوع من الفنانين وإلى تجاربهم التي سميّت، لاحقاً، بالتعبيرية. إذ لم يكن لهم برنامج محدد. كانت لوحاتهم تكاد أن تكون صرخات بسبب أضرار لحقت بأرواحهم، وأثناء ملاحقتهم لصورة غير هانئة عن العالم، وكأن كارثة ما صارت تحدق بهم. كان القلق على ما هو إنساني، مادة للوحاتهم، التي تكاد أن تكون تصوير مشاعر تبحث في عتمة المدينة عن لوعة ذات، يهددها عالم تنافسي، ضاغط وشديد الوطأة. يرسم ادوارد مونخ (1863-1944) لوحته العتيدة "الصرخة" عام 1893. تجربة، هي وليدة صراع خاص وشديد الغرابة مع الحياة. حيث يبوح الوجه وكل حاسة فيه بالذعر. يقول مونخ "إن فني هو اعتراف ذاتي". لكن الآخرين سيتمثلون اللوحة، بعد ذلك، بوصفها أيقونة، رمزاً، شاهداً على وضع الإنسان في القرن العشرين. وبدوافع فردية، يرسم جيمس أنسور (1860-1949) أقنعته التنكرية. ذات تتشظى أشباحاً، ومسوخاً، عابثة تنكرية ضاحكة، كأنها تبادل، بتهكم، وجودها مع صورة العالم. فيما تحوز لوحات ماكس بيكمان (1884-1950)، تلك النظرات الخائفة لوجوه ملتبسة، تطل على فضاءات ضيقة. هذا الفنان الذي جنِّد في الحرب الكونية الأولى، وعاش بعدها منفياً، مات في غربته، وفي لحظة شديدة المفارقة، عند ذهابه الى متحف متروبوليتان في نيويورك، لمشاهدة آخر لوحة، معروضة، رسمها لنفسه.
تمثيلات القبح
ثمة تصورات لافتة أخرى وسم بها فن القرن العشرين: إنها المرة الأولى تقرأ فيها الاتجاهات الفنية من خلال الحروب، ما قبل الحربين الأولى والثانية، وما بعدهما. تضاف الى ذلك مهمة ضدية، أخرى، تمثل موضوعة القبح، واستعارتها كنموذج صوري، بذريعة نفيها وتفنيدها، وخصوصاً بعد خمسينات القرن المنصرم، حين غمرت الأشكال والموضوعات الصادمة المشهد الفني وتجاربه المعاصرة. فللفن صلة استشرافية، راسخة، مع العالم، ربما يكشف عن معناه في بطء، وقد يتأخر قليلا، إلا انه أبدا لا يخفي سنده الأهم: روح العصر، عبر تمثل اشكاليتها، التغذي بنهم على مزاجها، حساسيتها، وقضاياها الجوهرية. لوحات الفنان فرنسيس بيكون (1909-1992)، هي إحدى التجارب الأكثر تمثلا لحالة الذات في تلك الحقبة بعد الحرب الكونية الثانية. كان مصدره الخلاّق، نماذج من صور ضوئية وقصاصات صحف، ومجلات، وصوراً نسخية لأعمال أساتذة فن عصر النهضة، وذكريات موحشة للعالم السفلي للمثليين. يقول: "كنت دائما أريد أن ارسم ابتسامة ولم انجح قط". أعماله صورة فريدة، مبتكرة، لمأساة الحضور الإنساني في فعله الفردي. وجوه ممسوخة بملامح مشوّهة في غير موضعها الحقيقي، وأجساد في وضع صراعي، ايروتيكي، تتلوى بوحشية وغضب. كائنات ارتيابية على أعتاب الهلاك. يقول بيكون في رد فاضح: "نحن جثث محتملة".
استيهامات الإشهار
تسبّب تراكم الجهد ما بعد الطليعي في قرن متعجرف بتعبير بودلير، وخروج الفنانين دفعة واحدة من الرؤى السابقة وثقل أزمنتها، باكتساب الفنون المعاصرة أشكالا تحيل على كل ما هو ساخر، مثير، ساخط، هامشي، ساذج، هجين، خلافي وغامض. نعوت مصاحبة لتجارب وبرامج جماعات فنية. هي علامة فارقة لحقبة بصرية وفنية جديدة لما بعد منتصف القرن المنصرم، وحالة تأسيس مختلفة على فكرة الواقع، بسبب إعادة إنتاج صورة مشتهاة عنه، وعلى نحو أكثر قسوة. ماذا على الذات الجمالية أن تفعل في مواجهة عالم يضج بالتعارض، والتنافسية، والارتياب، والفزع، وحاضر مسكون بالرغبة، تتلاشى فيه متلازمات قيمية ذات معنى؟ ماذا عليها أن تفعل سوى أن تغادره، متخلية عنه، وتنأى بنفسها للوصول إلى حافات ابعد، إلى مجال لا تتبين فيه حدود العلاقة بين الواقعي والوهمي. غيابها يعني غياباً للندرة وحضوراً للاستعارة المكررة. هذا ما تبيّنته تجارب الـ"بوب آرت"، التي استدعت الذات كحالة إغراء من خلال الصورة، والطباعة، والاستنساخ. حتى في حالة حضورها الرمزي، الأشد مأسوية، هي ليست سوى وسيط صوري مصمم، وحضور منسوخ وسيّال، مصنّع، صامت ومسيطر عليه، دونما خصائص، ولا فرادة، ولا مرجعيات تذكر عنه. من إنتاج واقع هو نفسه فضاء معدّ للفرجة والاستهلاك. في أعمال أندي وارهول (1928-1987)