سأبدأ من النهاية. ما نعيشه اليوم من واقع فني مشتت ومتشرذم ومفكك ومعاق وغير قادر على الأقل على التصدي لوظائفه الإنسانية المباشرة ولحقيقة الوجود المهدد في هذه المنطقة التي كانت ولا تزال تقف امام أقدار تلاعبت بمصيرها يدفعنا إلى الالتفات إلى الماضي، هناك حيث تكمن جذور هذه المشكلة. وكما أرى فان ما شهدته المنطقة العربية من اهتمام (كان مظهريا للأسف) بالفنون بدءا من سبعينات القرن الماضي لا يمكن استعادته اليوم، لأسباب عديدة، يقف في مقدمتها ضعف الدولة وانهيار التفكير الاقتصادي الاشتراكي وتفكك عرى المجتمع وشيوع شخصية المستهلك السطحي بسبب صعود طبقات لم تكن مهيأة أصلا (معرفيا وتربويا وأخلاقيا) لاحتلال موقع متقدم في المجتمع.
سأكون صريحا في الاجابة على سؤال من نوع: ما الذي يعنيه أن يكون المرء فنانا تشكيليا (رساما أو نحاتا) في المجتمعات العربية؟ لا شيء. تاريخيا لم تسع الجهود السابقة إلى تقوية وتركيز مكانة الفنان في المجتمع. ظل الفنان، وبالأخص على المستوى الاقتصادي، ملحقا بنظام غامض من الانفاق يشرف عليه موظفون معادون لاستقلال الفنان اقتصاديا (وثقافيا أيضا). لذلك لم تنشأ سوق مطمئنة ومريحة للفن. كانت تلك السوق تتدبر أحوالها من خلال تواطؤات جانبية، لا علاقة لها بقيمة ما يقدمه الفنان ولا بمكانته. فالتقييمات كانت لا تعتمد على ميزان نقدي واضح. ولأن الفنان العربي قد تربى على فكرة هلامية تقول بان العمل الفني لا يقدر بثمن، لم يكن في إمكانه أن ينتبه إلى أن جزءا عظيما من كرامته كان يهدر مع كل عملية تقييم كانت تتم بطريقة ارتجالية.
كان الفنان العربي إذاً تابعا للمؤسسة. وهو ما جعله مقيد الحركة، ضعيف الصلة بالخارج. لذلك انتهى فنانونا (حتى الكبار منهم) فنانين محليين، يندر أن تجد أعمالهم صدى عالميا. ومن أين يأتي ذلك الصدى، وقد استولت المؤسسة الفنية على كل الدعوات التي توجه من أجل أن يكون للبلد حضور ومشاركة في هذا الملتقى الفني أو ذاك؟ كان مشهد الأجنحة العربية في اللقاءات الدولية مزريا، من جهة خيانته لحقيقة المشهد الفني في بلاد سعى فنانونا إلى أن يكونوا طليعيين في ارتباطهم بتجليات الحداثة الفنية في العالم. ولكن المؤسسة الفنية كانت (لا تزال) مصرة على حلب صورة البلد التقليدية إلى آخر قطرة، حتى انتهينا اليوم إلى أن نكون شعوبا فلكلورية، كما أرادنا الغرب تماما (كما رآنا دائما في مخيلته).
ولست مبالغا إذا ما قلت أن المؤسسة الفنية العربية قد انفقت من الأموال ما يكفي لتشييد متاحف وقاعات للفن من طراز ممتاز في مدن عربية ولإنشاء معاهد فنية تتبع أحدث مناهج التعليم ولانتاج مكتبات هائلة تكون مادتها الكتب المتخصصة بالرسم والنحت والعمارة بل ولحجز مكان دائم في اللقاءات الفنية الدولية للفن العربي وقبل كل هذا وبعده للحفاظ على كرامة الفنان العربي، حين يتم وضعه امام تقييم نقدي، حقيقي لقيمة عمله في سوق فنية لا تخضع لمزاج ولأهواء ولرغبات السماسرة القادمين من القاع الاجتماعي أو من مكان مجهول في هذا العالم. للأسف كل هذا لم يتحقق: لا متاحف ولا قاعات ولا كتب ولا سوق فنية وظل الفنان العربي يقف اشبه بالمتسول على أبواب القاعات وبين دهاليز قصور رجال الاعمال مثله مثل أي خادم آسيوي (هو مجرد توصيف لواقع حال ليس إلا). وأخيرا حضرت المزادات العالمية لتضعه وفق أجنداتها (السياسية والاقتصادية) في الخانة التي تراها مناسبة له. وهو ما جعلها حرة في استبعاد فنانين مهمين على المستويين التاريخي والفني لتعلي من شأن نكرات، هم في الحقيقة صنائع دوائرها التي تعمل في الخفاء.
نحن الآن نحصد ثمار فشل مؤسساتنا الوطنية.
لقد ضاع الجزء الأهم من صيرورة حياة كان في إمكانها أن تشكل نموذجا مثاليا لمجتمع احترم نخبه الثقافية ووضعها في المكان الذي يليق بها. خسارتنا في هذا المجال لا تعوض. صحيح ان هناك جهودا استثنائية بذلتها بعض القاعات الفنية الخاصة من أجل تحاشي الأسوأ، غير أن تلك الجهود جاءت متأخرة وفي الوقت الخطأ. كان هناك تحول عالمي في مفهوم الفنون، صار بمثابة الميزان الذي يقف على كتفيه طرفان: المزاج الشعبي، وهو مزاج تكون عبر عمليات غسل دماغ معقدة، والمال، الذي صارت الشركات تضخه بطريقة مجنونة من أجل صناعة فن، يكون تحت السيطرة. ولهذا فليس غريبا أن تلتحق قاعات عربية بالركب، لتقبض أموالا صارت ميسرة من أجل طمس الحقائق الفنية المحلية.
ولأكن واضحا أكثر واقول: لولا النفط لما كنا في المهب. لولاه لما سألت عنا العولمة، ولما اصطادت الشرعية الدولية طغاتنا، ولما اهتدى كريستس ولا غوغنهايم ولا سوثبي ولا بوكر ولا اللوفر ولا آرت باريس إلى الطريق التي تقود إلينا. فليذهبوا إلى نيجيريا أو فيتنام أو نيكارغوا إذا كانوا حريصين على نقل الحضارة. الكذبة واضحة. هناك فائض مالي في المنطقة يقابله شعور محلي عميق بالخيبة هو ما يمهد الطريق لشتى صنوف الاحتيال والنصب.
في ظل هذا الواقع المخاتل صارت تنشأ مؤسسات فنية بديلة. أقرأ أوراقها فإذا هي مكتوبة بلغة دقيقة، مبرمجة في سياق منضبط. صارت تلك المؤسسات تزعم تمثيل فناني بلد في غيابه وغيتبهم أيضا. ولكن ماذا عن التمويل؟ في هذا الوقت المؤلم لم يعد أمر التمويل محرجا. هناك مؤسسات غربية داعمة للديمقراطية هي التي تقدم الدعم، كما لو أنها تعوض الشعوب العربية ما فقدته بشريا وماديا بسبب الحروب التي شنت عليها. ولكن الموضوع ليس كذلك تماما. حين يطلع المرء على اسماء مؤسسي تلك المؤسسات البديلة لا يعثر على اسم واحد يشير إلى فنان، هو جزء من حقيقة الحركة الفنية في هذا البلد العربي أو ذاك. لا بأس. ليؤسس الفنانون العرب الجدد جماعاتهم الفنية التي تجمعهم في الشتات، بشرط أن لا يزعموا أنهم يمثلون ثقافة وحاضر البلد الذي يدعون الانتساب إليه. وكما أرى فان ثقافة الحلول صارت نوعا من الاستعمار. صارت جماعات من البشر تبحث عن فراغ لتحتله. بعد انهيار الدول العربية برزت فراغات كثيرة هرعت تلك الجماعات إلى احتلالها. في الدورة الأخيرة لبينالي فينسيا كان هناك جناح عراقي، ولكنه لم يكن كذلك فعلا، إذ استولت عصابة بعينها عليه لتكون ممثلة للفن العراقي. لا أحد يعرف من رشحها للقيام بهذا الدور.
الفشل لا يقف عند حدود معينة
لقد فشلنا في إدارة أحوالنا. لم نكتف بهذا الفشل بل سمحنا للآخرين في استعمال أموالنا لإدارة فشلنا. سيقول زائر جناح العراق في بينالي فينسيا: 'هذا هو الفن العراقي'. ولا شيء مما عرض يمثل الفن العراقي ولكننا نستحق ذلك التقييم الظالم، ذلك لأننا صرنا تدريجيا نتماهى مع القول الاستشراقي الذي يزعم ان الشرق صناعة غربية. لقد تُركت كاترين ديفيد قبل سنوات حرة وهي تقيم معرضا في برلين عن العراق، فكان ذلك البلد (من وجهة نظرها في ذلك المعرض) فضاء لتجليات فلكلورية، صارت هي الأخرى جزءا من الماضي. لنكن بريئين أكثر مما يجب فنقول انها قد صنعت عراقا ينسجم مع خيالها، ولكن ماذا يمكن أن نقول عن العراقيين الجدد وهم ينسجون عراقا من غير هوية؟