حتى عهد قريب، كان الفكر الجمالي معنياً بممارسة الحق في النقد وإطلاق الأحكام. إثارة أسئلة تبدأ من العمل الفني إلى حيث تمضي في اتجاه التاريخ والعالم والإنسان. لكن هذا الفكر، اليوم، أصبح يواجه إشكالية قد تؤدّي إلى انتزاع الاهتمام منه، جرّاء إهماله الإجابة عما يستطيع فعله في مواجهة عصر يحاول إخضاع الفن كما الثقافة إلى هيمنة العولمة، وتخصصات التقنية، والصناعة الثقافية المستدلة بتوجهات تسعى لمحو التمايز والفرادة والانتقاء، بفعل طبيعتها الاشهارية الشرهة، القائمة على مبدأ الخدمات والاستهلاك والمشاعية.
ثمة صلة ريادية للجمالية بجعل فكرة الجمال من هذا العالم، حينما استعانت بالمخيلة والتعبير والحساسية بوصفها أدوات معرفية وذوقية. كما بادرت إلى اعتبار الحياة موضوعاً فريداً للتلقي، والعمل الفني حاملاً لقيم ترشدنا لإثارة أسئلة تبدد الوهم وترفد مخيالنا الإنساني، والى تعزيز التطلع الى الحقيقة في كونها كشفاً عن كل غامض ومحتجب. كانت الجمالية معنية تماماً بممارسة الحق في النقد واقتراح الأحكام في خطاباتها وأقوالها كأحد أوجه الحرية في التفكير، كاشفةً عن معنى ورؤية إبداعيين يتعهد الفن الأصيل إطلاقهما.
لقد شكل وجودها حدثاً تاريخياً وفكرياً شديد التميّز منذ عصر التنوير الأوروبي، ليس بأسباب تعارضها مع الخطاب الماورائي والديني والسياسي، وتحريرها الشرط الإنساني من وصايتهما، ولكن بوصفها وسيلة للاتصال والتبادل مع الآخر في كل ما يتعلق بأحكام الذائقة وخبرتها، ما أهّلها لأن تصبح مجالاً إنسانياً مشتركاً، وعابراً في الوقت ذاته، لمحددات الثقافة واطر الخصوصية. إن فكرة الجمال حاضرة في كل مجتمع من خلال تاريخه الثقافي، كجوهر إنساني يتطلع لإضفاء قيمة سامية على موجودات الحياة. فمنذ القرن الثامن عشر، وهو العصر الذي باتت فيه الإعمال الفنية معروضة للجمهور، كانت الجمالية قد ولدت لتؤكد للإنسان كيفية النظر إلى العمل الفني وصون تأمُله عنه، باعتبارهما (النظر والتأمل) لحظة فكرية وتاريخية معاً.
هكذا سيعرّفنا فلاسفة ومفكرون منذ كانط وهيغل، حتى هايدغر وميرلو بونتي وادرنو وغادمير، الى اعتبار الملكة الإدراكية والحسية للإنسان مقصداً فكرياً ومعرفياً، وأن فعلي التعبير والابتكار مجالان قابلان لتأطيرهما بالمفاهيم والمقولات وإحكام التقويم. فيما لم يعد الفن ميداناً وحيداً، غامضاً، موصولاً بفردية الفنان وعزلته وانفعالاته المثيرة للغرابة، أو فضاءً تعبيرياً لا يقبل التحديد والتعيين، وباعثاً على الاغتراب. إن تقدم الجمالية لفهمه وتفسيره، وضع هذه الممارسة الخلاقة في تطابق ومعقولية أكثر مع العالم والمجتمع والحياة.
يبقى الفن، الغرض الدائم الجمالية. وهي بدورها، الوارثة لأزماته التي أطلقها أثناء تحولاته وبحثه العنيد في أن يكون مستشرفاً ودالاً لمتغيرات العالم. إلا أن تمسّكها بعدّتها المبالغ فيها: المعايير، القواعد، النظام لإدامة حكمها القيمي، كما أسباب إبقاء طبيعة حضورها التأملي، وكياسته، وتأكيد التعريف بثوابتها المعقلنة، جعلها تفتقر للإنصات المتميز الى الزمن. أمر أدى إلى مفارقة غير مسبوقة في علاقتها مع مهماتها!
منذ ولادة طليعته التاريخية، لما يقارب القرن، تحول الفن ليكون تأسيسياً من حيث حضوره التعارضي، ضد دعاوى تحاول تقبّله في حدود التذوق والمتعة واللذة. أو حتى بوصفه تجلياً محسوساً للفكرة. لقد كان في توق لينهل من طبيعته الخلافية التي انطوي عليها، معلناً حضوره بأداء حسي، نقدي ومشاكس، ممتنعاً عن صفة التماثل مع الراهن، عبر تدشين مخيلة شديدة الخصوصية، باعثة على رؤية تقترح مشاهدة ما لم يُر بعد. فالفن بات هو الذي يولّد معاييره الخاصة به، التي أوصت بالتخلي عن كل بعد تمثيلي ومغادرة نموذجية الأسلاف، تاريخية المتحف، هالة التعالي والرحيل إلى ابعد من توافقية المؤسسة. إن قطيعته هذه، هي التي أهّلته لإقامة صلة حيّة، راهنة، ومغايرة مع الواقع.
هكذا بدت أسئلة الفن أكثر من تلك الإجابات التي تبدو أن الجمالية راحت تطلقها بشكل متباعد، أو حتى تلك التي يمكن الإجابة عنها، ما جعلها تتماهل، غالبا، في تعيين الحساسية الجديدة التي أقامها الفنان مع عصره، وتكريس حال من الانقطاع وإظهار التباين في كشف الانشغالات والتبدلات التي أصبح عليها الفن في الزمن الحاضر.
يصف عدد من المفكرين أن ما يشهده الفكر الجمالي أشبه ما يكون بأزمة تشريع، حيث ثمة هاجس من الانفصال يعيشه هذا الفكر لجهة التحولات التي ترسم خريطة الحساسية المعاصرة الآن. فيما تظهر أسئلة أخرى مجاورة، ولّدها عصر تجاوز حالة التمايز، والقبول بجميع والإشكال والممارسات الفنية، في وقت نجد فقراً في تفسير ما هو محسوس بالقدر الكافي، وفجوة آخذة في الاتساع، من جراء عدم تثمين ما هو متحقق من فن اليوم، من قبل طرف الفكر الجمالي. كأن الجمالية ذاتها باتت من دون مرجعيات تثبّتها إلا من ارث منظومتها التفسيرية واحكامها اليقينية السابقة.
فالفن المعاصر لم يتحصل بعد، إلا على القليل من إجابات مؤثرة. فهو في انتظار معاينته بشكل جاد والذهاب به إلى الأبعد، وعبر طبيعة نظر موصولة بالمعرفة، والتفسير، لا محاولة الاكتفاء بتعنيفه. فكل تجربة تبقى لصيقة بالمعنى الذي هو نتاج خبرتها، حيث أن تواشج تأملية الخطاب النظري مع المخيلة الفنية العملية، يحقق رؤية متكافئة، قادرة على أن تؤسس طريقة وجود مبتكر للآخرين، الأمر الذي يغني التجربة الجمالية لاكتساب موقعها في العالم.
هكذا تبدو الحاجة لأن تضطلع الجمالية باستعادة أهدافها، لإعادة تأصيل مبدأ النقد، بخلاف واقع بات يحتكم الى معيار القبول، من طريق عولمة تمارس بنسقها التوفيقي، وعن قصد، إهمال شرعية التفكير في كل ما هو جمالي، شديد الارتباط بحرية الشرط الإنساني في بعده الروحي والوجداني. عبر التسلل في خطاب يطابق بين الفن والاقتصادي والثقافة والسياسي، لتنحية كل سؤال يبدأ من لحظة التفّرد، أو حتى تنقيته وتخفيفه من كل تعارض قابل للظهور في المجال الفكري والاجتماعي والإيديولوجي. إذ لا يراد للفن ولا للثقافة أن يكونا مطلبيين لجهة امتلاك القدرة على فضح أوهام الواقع، قدر ما يراد لهما التحول إلى صناعة صيرفية، تجني الدولارات!
في عالم هو نفسه في متناول التجربة الفنية الراهنة كموضوعة حسية للابتكار، فيما الجمالية كفكر نقدي وتنويري، معنية بإطلاق الأحكام والاتصال والتبادل، لا بد لها من الاهتمام بالكشف عن العلاقات الداخلية، الحرة، الكامنة في الحضور الإنساني، ما يجعل مقولة المفكر تودوروف "إن الحياة بدورها اثر فني" تكتسب صدقيتها بامتياز. إن في فكرة الجمال إمكان أن تتضح الحرية أكثر!
ثمة مسحة من المشابهة تطغى على عالم اليوم، تتجلى عبر إجراءات ومفاعيل وتقنيات وسائطية الكترونية وافتراضية، لا تكتفي بإنتاج المعلومات وتوزيعها، بل تكرّس، ضمنا، اتفاقات شمولية لتحييد الوجود الفكري والروحي. ما يعني تحويل الإدراك من خبرة تصون النتاج المعرفي والنقدي إلى ظاهرة يتمّ تطويعها في خدمة الذيوع والانتشار والترويج بل المحافظة على أفكار الحد الأدنى، المعنية بالوقائع الصغيرة ومفردات الواقع اليومي العابر.