وهو بمشيئته الوحيدة هذه ؛ الرؤيا ، يختار الطريق الى النار والتراب .
الرسام بصفته مخلوقا رجيما . فانيا ببقائه او غيابه ، مخلوق كاشف متقشف ، مخلوق مغاير لكل عقلانية.هو رجيم لكل تلك المعاني المدده لأسرارنا .
و بلاسم محمد يفعل ذلك كل نهارعلى دفتر سيرته :
يكشف ذلك الغموض ، بغموض خاص يحمي شعلة ذواتنا من العادي ، حين يرسم همجية الظلام في واقع صعب . إنه حين يعود من تجواله بين اجناس لاتحصى من التفجرات العشوائية لحياتنا اليومية ، يعود مثقلا بفضاعة الأمواج المعتمة التي تصخب في اعماقه لتشكل القشرة الرقيقة لبيضة اكتشافاته ، كشعلة متقده داخل رأسه الأنساني الرخو .
في تعبيريته لا يبدوبلاسم محمد متمظهرا ، ليس اسلوبيا ، بل متعاملا صعبا يصنع عالما من سلالة مجاهيله ، مغامر يحاول اكتشاف كنهه العميق دون هواده ، فيأتي بعدّته ليسمّيه .. يغدو العالم صنيعه . انه يختار طريق المعنى الذي ينقص صراعات الأنسان المتصلة ، وان اتخذت تلك المغامرة شكل هاوية تنفتح دونما حدود . لكن الرسام يضيء القوى العمياء التي تحيط تفاصل
مشهدنا المتداعي .. انه يضع تفاصيل الحياة تحت مكبرة فنتازيا نادرة ،
ليجعلنا نرى مالم نره من معان لحضورنا ، في غمرة انشغالنا البدائي بالخبز
كمضمون نهائي لكدّنا ووجودنا ..
*
اقول ، ان بلاسم محمد في معرضه الجديد ، وهو يعرض تنويعات رؤاه وكشوفاته ، استطاع الى جانب ذلك ان يمارس ذلك الأصغاء المرهف لأيقاع تلك الأساليب المتعددة التي تأمل حدودها الأبداعية فنيا وتاريخيا .
وقد اجترح اسلوبا من الخطوط الرشيقة الصافية ، ومن الصرامة الأنفعالية ، ليبقي بعدي السطح التصويري بصفتهما بعدا الوعي بالحقائق التي تلامسها اللوحة و خواصها . انهما مجال الحدوس المطلقة لتلقينا اثر اللوحة . ومع ان التماثلات بين العناصر الأسلوبية للكثير من الرسامين لاتن ِ تعلن مرجعيتها الفنية الا ان حساسية بلاسم محمد في توكيد ملامحه الأسلوبية قد صنعت ذلك الرجع الخاص الذي يميز اسلوبه وتقنيته ولوحته. انه لايدور في محيط تعبيري محدد بل يستعين بالأشياء لتقول ذاتها بأسلوبها التكويني الخاص داخل اللوحة وهو بهذه الطريقة يحرر نفسه من كل نمط اسلوبي .
انه نوعه الخاص في تجسيد اللحظة الحية في لوحته
الرسام الرجيم هنا هوو صانع تلك الأشكالية التراجيدية لبقاء وتأثير العمل الفني فينا . اللوحة التي تستحضر عناصر الذاكرة و تحويل ذلك المنجم البدائي القديم الذي يمد الذاكرة التشكيلية الى لمسة روحية لكل كشف حاضر. اي انه متجذرفي الحس برغم ولائه لحاضر نابض وعقيم ومرهق ..
العالم الذي يعذب الرسام في اعمال بلاسم محمد هو عالم مؤثث بطريقة جارحة وعشوائية عنيفة وسيئة ، وحين يحاول ان يجعل من كل تلك التناقضات تحت مجهره طريقا الى تجانس رؤيانا ونحن ندقق في لوحته فهو يأخذنا الى تكثيف ذواتنا و ينشد وحدة الحلم في التنافذ والتجانس الجمالي .
حين قلت ان الرسام مغاير لكل عقلانيه فأنني اعني انه منجم حدس وحدوسه تحرر تلك العقلانية التي تتحكم بنا وتجعلنا نبحث عن اصل الأشياء وعلاقاتها بشكل نمطي يخلو من كل خيال ويقتل فينا طاقة الفنتازيا الخلاقة .
انه يعلمنا ان المخيلة ماهي الا نتاج التأمل الحر والأسئلة الكاشفة لاالأسئلة التعجيزية التي يطرحها مشاهد يؤمن بأن العالم مجموعة حتميات وتعريفات مقفله وارقام تحدد سيرته بين الحياة والموت .
انه يعلمنا كيف نقيم معمار صورتنا وهي تكف عن انتمائها الزمكاني لتكوين ادراك بصري يمدنا بالكيفية التي تظهر بها الأشياء في مخيلتنا لاكما هي في واقعها الأجرد من المعنى ومن الحس . ان معرضه هنا يحفزنا لكي يكون فكرنا الحدسي هو المنظم الأول لفوضى مخيلتنا حين تزدحم الأشياء بمراوغاتها ولانطلب من العقل الا طاقته التنظيميه . هنا يكون الحدس مثل طريق خلاص من النمطي الى الفنتازي حيث تبدو اللوحة وقد غمضت او تشوشت او تلاشت دلالاتها حتى يسمح للوحة ان تأخذ دلالتها لدينا من تأويلها .
*
حين اتأمل اعمال بلاسم محمد اليوم ، واستحضر تنوع خبراته الفنية والأكاديمية ، احس بتوقه العظيم لأ نجاز صورة ما ، مثالية ، غائمة ومجهولة يتمنى ان ينجزها يوما. لكنه لو فعل ذلك سيحكم على فن الرسم بين يديه بالفناء . وهو يعرف بقوته السردية اللغوية الماحقة ومخياله المحلّق في فضاءات غريبة ان افضية الروح تنطوي على نصوص متعدده ومتناقضة لكل مشهد وان للروح طاقة عجائبية لايمكن تنميطها في مشهد نهائي ووحيد .
انه يعلمنا في كل مرة يعلق فيها لوحاته امامنا ان الأبداع تخيّل مطلق .. وتجوال حي ولانهائي بين عناصره لأن المتخيل حين يعنى الفن بتجسيده .. فأن طاقة الأبداع ستمضي الى قدرها وسنحكم على خيالاتنا بالزوال وهي عدتنا الروحية الوحيدة لكي نحب !
الرسام الرجيم يقف على حافة هاويتنا .. لأنه يكشف جوهرنا بقوة الجمال !