المقاله تحت باب محور النقد في
14/04/2012 06:00 AM GMT
بعد كل هذه الرسوم لن يكون للذكرى ذلك المعنى الجاهز الذي يثير حفيظة الالم. لقد تعلم دلير شاكر (رسام عراقي مقيم في أمريكا) تقنية استرجاع عاطفته حين الوصول إلى لحظة القطيعة المبهمة. فهاهو الرسام ينظر من خلال زجاج معتم إلى ما تبقى من ماضي أيامه فلا يرى إلا ما يمكن ان يعينه على الذهاب بعيدا. ما يشير عليه بالحذر من الحنين المباغت. ما يؤكد انفصاله عن ذكرياته. في النقطة ذاتها التي تتجمع فيها سبل النظر يتشظى الانفعال النبوئي. لم يكن الأمر إذاً إلا خديعة مبيتة. نحن لن نرسم ما نراه مباشرة. لن ينتهي الأمر بهذا اليسر. نحن نرسم ما نفتقده. وهنا يقع العذاب. البلاغة الميتة ترقد على صفائح مسننة حيث لا أمل في أي جمال متخيل. بطريقة أو بأخرى فان الجمال يتألم حين تكون اللوعة مادته. ما كان من الممكن أن تكون عودة الرسام إلى البيت بمثل هذا السوء لولا كثافة الأمل المضلل. يحشرنا دلير شاكر في منطقة ضيقة، حدودها سؤال يسعى المرء إلى تفاديه قدر الامكان: هل العودة الى الوطن ستكون مؤلمة مثلما كان النأي عنه مؤلما؟ كان في إمكان الرسم أن يكون حارسا للذكرى، رسولا للحنين، غير أن العين لن تفلت من الواقع حتى لو عزفت عن البحث عن الحقيقة. حينها يكون كل ما نفعله نوعا من الممكن الافتراضي. وهو الفعل الذي يجعلنا ندور في فلك قسوة، مادتها تتشكل من ضحكاتنا الصغيرة ودموعنا المجلجلة. "ما من أمل إيها الصغير. عد إلى بيتك"
"ولكن أين يقع بيتي؟" يلخص دلير شاكر حيرته متأنيا ولا يصفها. يريقها على سطوح لوحاته من غير أن يقوى على التحديق بها بإمعان. فهو وإن لم يعثر على ضالته في بلاده، بعد غياب دام سنوات طويلة، فان مشاهدا عصية على الفهم قد اخترقت جسده لترقد بين ثنايا روحه مثل جمرات مشتعلة. هو ذا يعود من سفره بفتات ذكرى لتحل محل ذكرى سابقة، كانت إلى وقت قريب صلبة. يستبدل حياة متخيلة كانت غاصة بشوق مثالي بحياة أخرى لها الطابع الخيالي عينه من غير أن تحثه على الاستمرار في حلمه القديم. لقد فسدت الذكرى. لا يكتفي الرسام بالنظر هذه المرة. لن تكون الوثيقة الواقعية كفيلة بالاجابة على سؤاله الذي عاد غامضا مرة أخرى. كانت هناك جهة واحدة يمشي المرء اليها ليصل إلى بيته. الآن تعددت الجهات وما من بيت. كل هذه الرسوم من أجل أن نكون على يقين من أن لا بيت هناك في انتظارنا. ستحل الصور محل الحقيقة المتخيلة. لكن دليرا لن يكون وفيا لما يراه، لذلك نراه يستغرق في تأمل الشقوق التي تفصل بين صورة وأخرى، بل وبين أجزاء الصورة عينها، بحثا عن مشهد البيت الذي قضى زمنا طويلا وهو يتأمل باحته الداخلية وينقل خطواته بين غرفه ويقطف أزهارا من حديقته الأمامية. ولأنه لم يعثر على أثر من ذلك البيت المكتظ بحميمة وقائعه فقد صار يرسمه باعتباره غابة من الخطوط الهندسية التي تتشبه بخيوط بيت العنكبوت.
ذلك البيت الهلامي كان بمثابة الفضاء المقدس الذي لم تدنسه وقائع الخراب اليومي بعد احتلال العراق بالرغم من أنها استطاعت أن تلحقته بالماضي باعتباره جنة منسية. وكما أرى فان الرسام حاول أن يكسب فكرة العودة إلى البيت منحى جنائزيا، حيث كانت عودته إلى بلاده بمثابة تلويحة الوداع الأخيرة. فلا بيت بعد اليوم. "الغربة لا تهبنا بيتا بل ملاذا آمنا" وإذا ما كان الحنين يهدأ من روع المرء وهو يواجه خيارات معقدة في غربته، فان صدمة المرء وهو يفقد إلى الأبد بيته إنما تصنع من الذكرى قوتا مسموما. وهذا ما واجهه دلير شاكر ببطولة، حين وهب بيته المتخيل هيأة الشبح الهندسي الذي يستمد قوته من تماسكه الداخلي. هوذا الرسام ينجح في صياغة شكل لبيت يحمله معه حتى الموت. "هناك بلاد أخرى في انتظارنا دائما، لكننا لن نجدها"
|