وداعاً ايها الاخضر

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
16/04/2012 06:00 AM
GMT



يشبه المفكر الفرنسي "غستن باشلارد " الذات او نفسه بالمنزل بكل زواياه وأطرافه. ويعتقد ان ذلك المنزل هو مسرح للرؤى، اذ يسمح له بالاستراحة مع افكاره وتشكيل تلك الافكار. وكل جزء من ذلك المنزل يعكس درجة من درجات الوعي الكامل او نصف الوعي او اللاوعي الانساني ويعتقد ان المنزل هو عمل انساني ومرتع لافكار الانسان ووسيلة للرفاهية والراحة. بينما يٌنَصّب "فرويد" اللاوعي سيداً للذات وسيداً لكل منزل.
 
تلك الفكرة الازلية التي صنعها الانسان حين ساقه الخوف الى الاختباء ثم الى الاسترخاء ثم ممارسة بقية غرائزه تحت سقف آمن، ليتطور هذا المفهوم عبر الزمن حتى استحال مفهوم المنزل الى مجرد "صوفة مريحة" كما تعبر عنه الشعوب الاسكندنافية. تلك الفكرة التي جمعتنا في حافلة عند الحدود وذهبنا صوب منازلنا القابعة تحت جبال الزمن، كُلٌ مضى الى عتبة ما بقي من منزله الاول فاصابنا الذهول جميعاً الا واحداً منا. فقد اصابته" صدمة". تلك عتبة دار الفنان سعد شاكر الغافية في جوف ليل مجهول وذلك منزل لا يفضي الى بابه مفتاحه ُ القديم، وحين بحث عنه دلير شاكر لم يجده في جيبه بل في ذاكرته،وقد تردد طويلا في وضعه في الباب خوفاً من مواجهة ما يخبأه السكون. ذلك المنزل المتشكل من قوى جمالية وروحيّة راسخة تتجاذب أطراف النقاش عن اواخر انجازات الفن في العالم وقد شكلت كل تكوينه النفسي ووعيه ولا وعيه، طفولته وصباه وشبابه، وذلك الركن المضيء بطاولة الطين في مشغل الاب الخبير وتلك الايدي الصغيرة التي شكلت عناصر حواسه الفنية الاولى بالمادة والتاريخ وأفران النار وخلق الاشكال البريئة وليس بعيداً عن رقابة عين الأب الجالس على بعد بضعة امتار.
 
ما الذي يدفعنا للرجوع الى تلك الاماكن وتلك الذكريات ، وما السر الكامن خلف تلك الدوافع، ما الذي يجبرنا على قطع مسافات هائلة وبكل وسائط النقل المتاحة : طائرات، قطارات، سيارات، سفن، الى مربعات او مستطيلات صغيرة قد تكون اختفت من الوجود واختفت ايضاً تلك الدروب المؤدية اليها بعدما تغيرت مساراتها و ازدحمت بالخوذ الحديدية. الافق المغبر، الهواء الراكد المثقل بالدخان والعفن ، عتبة الدار التي تضاءلت وصغر حجمها دار غادرها ابطالها الى اتجاهات مختلفة .... قد يفضي المفتاح الى الباب، ومنه الى الباحة والغرف والجدران، وربما لا يفضي الى شئ أو قد اختفى كل شيء هناك؟ هاجس غامض أزاح الأخضر من التنفس ونشر الرعب في القلب حين وجد ان بساطيل العسكر قد داست على السجاد ونثرت الرعب في الاشياء والذكريات، وما زالت ثمة لوحات على الجدران .. لوحات على الجدران ؟
 
"رأيت على جدران كنائس الجنوب لوحات.. واما م اللوحات بقع من الدماء.. وهكذا فقدت اللوحات تأثيرها" (اندريه مالرو- لامذكرات). تلك الصدمة التي فتحت عيناً اخرى في دواخل دلير شاكر لرؤية العالم بشكل مغاير تماما. ان انهيار فكرة الوطن الصغير في مكان ما في هذا العالم الواسع والتهديد الذي شعر به الفنان بعد ان شهد بنفسه أنطفاء نوافذ ذلك المنزل الاول حفزت فيه طاقة جديدة في صياغة ذلك المنشأ بطريقة مختلفة او الشهادة عليه بالطرق المتاحة بالفن وتشييده بتلقائية جديدة مقصودة فيها الكثير من المعرفة باسرار العالم . في أعماله السابقة ورغم العنف والقوة المأساوية التي طرح فيها احساسه بالعالم، كما في لوحاته (الحاضر والماضي) (انفجار) و(ذكريات مبعثرة) كان اللون الاخضر فيها رائقاً وطاغياً حتى في صراعه وأنسجامه الحاد مع الاحمر والاسود. ورغم كل المسامير التي دٌقت وتلك التي بقيت ناتئه من السطوح، كانت الرغبة لديه قائمة في تخفيف وطأة وقسوة الحدث. فالذكريات في ( ايام زمان) رومانسية متراخية خضراء كمن ينظر الى النهر الخصيب من الاعلى وتغمره الرغبة الملحة في زخرفة الفضاء المحيط بالتكوين الرئيسي باستخدام النقوش المطبوعة على القماش. في اعماله الجديدة يستخدم ذات التقنيات السابقة كالمسامير والخشب والاقمشة المطبوعة، وقد أضاف اليها كماً رائعاً من الاسلاك والخيوط التي توحي بعدة البنّاء الاولى قبل معرفته التقنيات الحديثة. الخيوط التي اعانت الانسان الاول في تأسيس مسكنه، فاينما تطرق مسماراً و تلف حوله بداية الخيط حتى تنمو النقاط الاخرى لمواقع المساميراللاحقة بتلقائية في مسيرة قد لا تتوقف، ومنه تتشكل التخطيطات المتلاحقة التي ليس لها نهاية، لكن دلير يحكم نموها وحركتها ولايبتعد عن لبّة موضوعه الاول متجنبا الوقوع في فخ الكشوفات الفتانة في العمل الفني والتي حذر منها بيكاسو مرارا . فهو البنّاء العفوي الذي يبدأ بنقطة واحدة تقوده الى التصور الكامل للموقع وفي قلب الموقع تتسيّد الذات فتتكشف عناصر ً تشكلها الاولى .
 
يفترض دليرشاكر مخطط ما لمنزل مماثل في الواقع او الذاكرة محاطاً بسقوف مقوسة اتية من الاماكن التي مر بها في اغترابه.. كل تلك المخططات تحتل قلب العمل الفني، بينما يحكم الفضاء المحيط شيء من اللامبالاة. . تكوين مفترض كسماء، ارض، بحر، اطار، ومرة يوهمنا ببناءعام قد يكون العالم برمته ، وما يهم دلير شاكرهو منتصف السطح الذي تقع فيه الاحداث وتنساب الذكريات وتنمو التساؤلات.. منزل يشيد واخر يهوى بلطخة من الاسود المحروق، ويغلب الاسى الآن على نزعته في ترتيب الفضاء المحيط باشكال من الاقمشة المرحة. وما ان يتشبع بلهوسة البيت الذاهب الى حتفه تسوقه رغبة جديدة في صبغ العالم الفسيح بنزعته البنائية الجديدة، اذ يرسم جسراً شبيها بجسر سان فرانسسكو العملاق مُقطّع قابع في المنتصف لا يفضي الى ضفة ما. وقد طوق الجسور والداخل بسقف مقوس فاضحت الجسور كلها في قلب ذلك المنزل. أمعنت النظر مراراً في تلك اللوحة التي جثى فيها الشخص على ركبتيه، بينما يهتز خلفه المكان بانفجار يوحي بأن لا شيء قد بقي ، وذلك المجهول الذي توسط المكان كله بعد ان مُحيت ملامحه، لا صور على الجدران ولا كركرات على السلم ّوأنّتْ على الباب ريح الشمال. بل دُمج السِلَّم في الجسرالغريب البعيد, وهما رمزاً لبداية الطريق المرتبك المؤدي الى المنزل المُفتَرَضْ. مخطط يكشف حجم الفراغ الذي صنعته الصدمة. ، فالذهن الذي حَمَل ذكرى ذلك المنزل قد صور ذاته الغائبة عن مأواها. ساعات معلقة في فراغ بحجم المنزل تشير لاوقاتٍ مختلفة متلاحقة تنذر بحدوث كارثة ام تعد دقائق الزمن لمغادرة تلك الكارثة أي المكان نفسه ؟ مفاتيحٌ تصطف رغم ارتباكها تامل معرفة نهاية ذلك المطاف ومغزى ذلك الاصطفاف .
 
مفاتيح دلير شاكر تعبر عن الحيرة والخوف من الوقوع في مكيدة ذلك التخطيط المسبق ومصيدة القبح والوحشة. لقد هضم دلير شاكر تأثيراته البصرية في التصرف بسطح اللوحة مستفيداً من كل تجارب الفنانين العراقيين، شاكر حسن، محمد مهر الدين، رافع الناصري، ضياء العزاوي ،سعد شاكر، علي طالب، مضيفاً اليها مزاجه المرح الذي حاول قدر الامكان اخفاءه هذه المرة لصنع التأثير الفعال لتلك التجربة المريرة، فهو يستخدم قطع من القماش مرتفعة الاثمان لاستكمال وتحديث تجارب من سبقوه بخفة ومهارة ونقلها الى عتبة المعاصرة.. تقنية المواد المختلفة أتاحت للفنان مساحة مترامية من الحرية للوصول الى قلب المعنى في اسلوبه التجريدي الجديد المتضمن لشئ من البوب آرت والتكعيبية التحليلية الذي يخلص في النهاية الى لوحة معاصرة ناضجة , فالاعمال عن بعد هي لوحات تجريدية تخلق انسجاماً بصرياً خالصاً ومن قرب تنقسم الى عالمين متآلفين محكمين برؤيا عصرية فالناضر اليها يتمتع فيها عن بُعد و يفكر فيها عن قرب .
 
اعمال دلير شاكر الجديدة تعد نقلة في حياته الفنية وهي منفتحة على العالم الواسع وتبادله التأثيرات الذهنية والبصرية بقلب مُنفَتح على تعددية التجارب. وفي تجربته الفنية لم يقفز دلير شاكر بقفزات متباعدة توحي بالتشتت او المغامرة، بل يسير بهدوء متزن كاشفاً عن نوافذ موهبته بالتدريج من دون ان يثير غباراً بوجه أحد. أنا على يقين بأنه سيصل الى نتائج مدهشة ما دامت لديه الخبرة الفنية والتقنية، وتربى في منزل فنان كبير وتدربت عيناه على رؤية الاشكال المهمة منذ طفولته، فهو الوحيد من ابناء التشكيليين المعروفين الذي خطف سر الموهبة من والده وطَيّبَ ظنونه فيه ، مستكملاً تجربته المؤثرة في مسيرة الفن التشكيلي العراقي. أستطيع القول ان الاعمال الجديدة هي تأكيد على سلامة عقيدة السلالة الفنية وتحركها باتجاهات منفتحة على العالم. أعتقد ان أعمال دليرشاكر الجديدة هي احتجاج فني واضح وحداد كبير على ما مَسّ تاريخه الشخصي كانسان، ولكن هل سيستمر هذا الحداد الى ما لا نهاية؟ لا أظن ذلك لايماني بأن دلير سينتقل الى عوالم اخرى جديدة بدأ بتأسيس خطواتها الاولى ولا يستطيع احد تكهن نهايتها لانه فنان غير محدود ومُنشَغل بأزمة وجود الانسان على الارض أينما يكون ، وربما قد يغير من سيره المتزن ويضع جانباً كل تجاربه السابقة في تحد كبير لذاته التي صنعها محيطه الفني ليكشف عن ذات اخرى تشكلها مفاهيم اممية جديدة شاعت في عالم الفن الآن .. الفن الآن