المقاله تحت باب محور النقد في
19/06/2012 06:00 AM GMT
خلال السنوات العشر الماضية شهدت امارة دبي افتتاح عشرات القاعات المتخصصة في العروض التشكيلية. وهي ظاهرة كان من الممكن أن تكون مدعاة للتفاؤل والامل، لولا ان ان تلك القاعات ظلت حريصة على عزلتها (إلا في ما ندر) عن محيطها الثقافي (الاماراتي الضيق والعربي الواسع).
كانت في الواقع عبارة عن جزر للعروض القادمة من وراء البحار لا يحضر عروضها مواطن ولا وافد عربي ولا أي فرد من الأغلبية الآسيوية الفقيرة. ولان كلفة تأسيس واقامة مثل هذا النوع من المؤسسات المتحذلقة في اناقتها في بلد هو نقطة تقاطع اقتصادي عالمي كانت عالية، فقد كان الربح السريع هو الهدف الاساسي الذي كان مؤسسو تلك القاعات يسعون إليه. لذلك غلبت العروض التجارية الرخيصة فنيا على معظم نشاطات تلك القاعات.
فما من فنان عالمي طليعي وطأت قدماه أرض الامارة الصغيرة، وما من معرض فني أقيم في واحدة من تلك القاعات كان له صدى عالميا. ما تناقلته الأخبار عن تلك الظاهرة يتعلق فقط بالمفاجآت التي كانت تشهدها عروض المزادات الفنية، حيث كان الاهتمام ينحصر في الارقام غير المتوقعة التي تخص الارباح التي حققتها تلك المزادات من غير أن يتم التطرق إلى الأعمال الفنية التي تم تداولها والمزايدة عليها، إلا بطريقة عابرة. لا لشيء إلا لأن تلك الأعمال لا تمثل شيئا في تاريخ الفن. كان للايرانيين (الخطاطين بالأخص) حصتهم الكبيرة في ذلك السباق. لا لأن عددا كبيرا من القاعات الفنية التي اقيمت في دبي تعود ملكيتها إلى ايرانيين، فحسب بل وأيضا لأن المقتنين من أصحاب رؤوس الأموال، ممن يرغبون في تحويل أموالهم إلى بضائع مريحة للاستثمار، كانوا من أصول ايرانية. اما الفنانون العرب، فإن ذكروا فان الارقام التي تشير إلى مرورهم لا تشكل أي ثقل يذكر في المعادلة. وهي معادلة مريبة، لا تعتمد على العرض والطلب، ولا تستند إلى مقاييس تاريخية أو نقدية واضحة، بل يغلب عليها طابع يبدو مزاجيا من الخارج، غير أن أعماقه تطرح الكثير من الشكوك التي تتعلق بصلة ما يجري بسياق ثقافي عريض صار أشبه بالفخ. وكما أرى فان التجار من مختلف الجنسيات كانوا قد قرروا أن يتخذوا من مادة نبيلة للفن شعارا لانجاز عملياتهم التجارية التي هي بعيدة كل البعد عن الجانب الإنساني، الذي حين يتخلى عنه الفن يغادر معناه الحقيقي. عن طريق الفن صارت عملية تداول الأموال تكتسب طابعا رقيقيا، مهذبا ورحيما.
إلى جوار ذلك النشاط، قام عدد من مقاولي النشر بتأسيس مجلات متخصصة بالفن، مكتوبة باللغة الانجليزية، وليس بالعربية التي هي لغة أهل البلد. تلك المطبوعات الفاخرة طباعيا لم تكن بعيدة عن المنحى التجاري الذي قامت على أساسه نهضة القاعات الفنية. كانت تلك المجلات مشاريع تجارية تحقق أرباحها المذهلة قبل الطبع، عن طريق ما تدره عليها الاعلانات من أموال. هنا ينبغي الانتباه إلى نقطة حساسة بالنسبة للمعلنين. فالفن هو نقطة ضعف حائرة لدى غالبية البشر، بالنسبة لكثير من أصحاب المصالح فإن الاعلان في مجلة متخصصة بالفن هو أفضل بكثير من الاعلان في مجلة متخصصة بالاقتصاد وسوق الاسهم. بمعية الفن نبدو الطريق سالكة إلى النخب المالية التي يهمها أن تُظهر تعففا عن شؤون الدنيا الهالكة. وليس مهما بعد ذلك ما نوع الفن الذي تقدمه تلك المجلة. اما اصحاب تلك المجلات فلا يهمهم بعد أن يحققوا أرباحا طائلة (قبل الطبع) أين توزع مجلاتهم. نعثر على تلك المجلات في مكاتب الطيران، في المطارات، في المراكز السياحية وفي محلات الحلاقة. بضاعة فائضة بالرغم من كلفتها العالية.
كلما تصفحت واحدة من تلك المجلات عن طريق الصدفة أشعر بالأسى. وأتساءل بغصة: كلفة واحدة منها تكفي لطبع عشرات من كتب الشعر والرواية والدراسات الفكرية والفلسفية التي صار الناشرون يفرضون على كتابها الدفع مقدما من أجل طباعة ونشر أفكارهم ورؤاهم. لا شيء في تلك المجلات يستحق القراءة. لا معلومة ولا فكرة ولا لوحة تستحق التأمل. ربما علينا أن نُعجب لهذه القدرة الهائلة على الكذب. صحيح أن كبرى المجلات الامريكية اليوم تعتمد على الاعلانات في ادارة أحوالها، غير أن مجلة مثل (Art in America) لا يمكنك أن تتركها من غير أن تقرأ فيها على الاقل مقالين أو ثلاثة لنقاد فن مهمين. اما مجلات دبي فانها وقد كتبت بالانجليزية لا تنفع حتى للنظر المحايد. فقاعة إعلانية يخشى المرء أن يلوث صابونها وجهه. ترى أما كان من المجدي أن يضغط مؤسسو تلك المجلات على أعصابهم قليلا ويتوجهوا إلى القارىء العربي؟ أعرف أن سؤالي هذا يجيء من جهة غير متوقعة، بل وغير معترف بضرورتها. 'ما الذي يقوله هذا الشخص المجنون؟' لكنني أتساءل عن الجدوى الثقافية، في الوقت الذي صار الفائض المالي بمثابة وحش لا يرحم. قرأت لواحدة من ناشطات الفن تصريحا أرعبني. تقول تلك الناشطة: 'في الخليج مال فائض علينا أن نحصل عليه. نستعمله أفضل منهم'. كانت تلك الناشطة مشاركة في (ارت أبو ظبي) الأخير وتستدعى دائما لتكون عضوا في لجان التحكيم الكثيرة.
هي إذن الفكرة الذهبية. هناك مال فائض.
ألا يمكن أن يستعمل ذلك المال الفائض في نشر مجلة تشكيلية تتوجه إلى القاريء العربي؟ ألا يستحق القارىء العربي التفاتة تقوي ثقته بالجمال، بعد أن فقد كل ثقة بالواقع؟ ولكن المال أعمى. ما من أحد ممن يديرون المال في إمكانه أن يرى الحقيقة أو يود القيام بذلك. في هذا المجال هناك واقع افتراضي، فضاؤه القاعات المعزولة جماهيريا والمزادات التي لا يحضرها سوى رجال الاعمال والمجلات التي لا يقرأها أحد.
سيكون علينا إذاً أن نتذكر بأسى مجلة (فنون عربية) التي كانت تصدر في الثمانينات في لندن بتمويل عراقي و(الحياة التشكيلية) السورية وما من أمل في أن نستعيد كرامة ما أنتهينا إليه من وعي فني، جعل رجل الشارع يهفو إلى التعرف على الفنون الجميلة ذات يوم.
بالنسبة لرعاة الفن الجدد في دبي فان ما أقوله سيكون موقع إنكار واستنكار وربما سخرية. أعرف ذلك. ولكن ما يهمني فعلا أن لا يرتكب متحف الفن العربي في الدوحة وهو يستعد لإصدار مجلة تعنى بالفن التشكيلي (كما تناهى الى سمعي) الخطأ المميت نفسه. فالعالم العربي لا يزال فضاء شاسعا للقراءة والمعرفة والتنوير، كما أن اللغة العربية لا تخيب أمل قارئها في الفنون. لا أعتقد أن مجلة مكتوبة باللغة الانجليزية من أجل التبشير بفن عربي، مكتوبة مقالاتها من قبل كتاب لا يعرفون شيئا عن الفن العربي، سيقرأها أحد. إلا إذا كان قرار اصدار تلك المجلة يهدف إلى تزويد محلات الحلاقة بمجلة جديدة. ذلك أمر لا يحق لنا مناقشته.
|