المقاله تحت باب محور النقد في
02/06/2013 06:00 AM GMT
لم يكن هواء بغداد صافياً كعادته صباح الخميس الفائت، فالحرب تركت غبارها ولم تمض بعيداً، حين انفجرت سيارة مفخخة في أحد الأسواق فسقط مباشرة خمسة وثلاثون قتيلاً، كان ياسين عطية واحداً منهم. هذه هي المرة الثانية في مسيرة عدمه التي يغدو هذا الرجل فيها رقماً. المرة الأولى كانت يوم قُبض عليه وهو يحاول التسلل خارج الحدود العراقية هاربا من الاشتراك جندياً في الحرب ضد إيران فأودع السجن سنوات قضاها وهو يتأمل الجدران. ما بين المرتين عاش عطية سنوات لاجئاً فاشلاً في الدنمارك. ولكن من بين القتلى الثلاثة والخمسين لمَ أكتسب هذا الرقم وحده اسماً؟ ببساطة لأنه صديقي ولأنه كان واحداً من أهم رسامي العراق.
«لا أصلح مواطناً أوروبياً» قال لي مفسراً رفضه الحصول على الجنسية الدنماركية بعد أن قضى سنوات طويلة في ذلك البلد الشمالي. قلت له ممازحاً «ولكنك ترسم بأسلوب أوروبي» نظر إلى لوحاته التي كان قد ركنها على الجدار في مرسمه لكي أراها «يدي تفاجئني بخيالها. دائماً ما كانت تفعل ذلك. غير أن شعوري بالغربة ثقيل. لقد حلمت بأن أقيم في رسومي، غير أنني فشلت في أن أقيم في الواقع الذي يتشبه بها»
منذ عرضه الأول، بعد خروجه من السجن بدا عطية مختلفاً تماماً عن التجارب الفنية التي كرسها المحترف العراقي. لم تكن تلح عليه تلك الأسئلة التي فتكت بعقول وضمائر وقلوب الرسامين بثنائياتها الغامضة: التراث والمعاصرة، الهوية والاغتراب وما بينهما الأصالة. كانت أصالته الشخصية هي موضع اهتمامه. يحدثك عن المزاج أكثر مما يسلمك للمعاني. ك
ان لديه ما يقع وكأنه نوع من السحر، المساحة اللونية التي تحتل مكانها المناسب لتلهم جاراتها موسيقى اطمئنانها. بسبب شغفه الروحي بالأشكال التي لن تكتمل كانت فرشاته تثق بنبوءاتها. اختصر الزمن فعاد إلى الوراء مكملاً مسيرة رسامي مدرسة باريس فكان وفياً لتقاليدها في اختزال المشاهد المرئية على هيئة مرئيات هي بمثابة أبواب تؤدي إلى ما لا يتسع مجال الرؤية المباشرة لاستيعابه. كانت رسوم نيكولاس دوستايل تحثه على المضي قدماً في طريق الغياب، حيث التجريد الغنائي لا يشكل إلا حلاً موقتاً للعلاقة الملتبسة التي تنشأ كل لحظة بين الواقع والرسم. كان ياسين عطية (1963) رائياً يتكلم لغة لم تكن قيد التداول.
رسومه التي كان النقاد يصفونها بالمبهجة كانت دليل عذابه.
كانت تلك الرسوم تؤرخ لمسيرته في الحياة ولم تكن محايدة باعتبارها كائنات تجريدية. صحيح أنها كانت تخلو من العلامات والرموز والإشارات والكلمات، وهو ما كان ياسين يكرهه وينظر إليه باعتباره نوعاً من التزويق البلاغي المنافق، غير أنها (أقصد الرسوم) كانت تقتفي أثر مزاجه الشعري، وهو مزاج مختبري تقع لغته خارج نطاق قدرة التأويل التبسيطية. كان عطية يطمح إلى أن تصل الأشكال إلى هدفها بسلامة. من المؤكد أنه كان معنياً بأن لا يكرر في الرسم أخطاءه في الحياة. كان الرجل يعترف أن حياته كانت قد امتلأت بالأخطاء. ألم يكن وجوده في المكان الذي انفجرت فيه تلك السيارة خطأً؟
لم تكن المسافة بين الرسم والحياة تقلقه، بل كان يشعر بمتعة لأن الآخر الذي كان يرسم بيديه كان ينسب تلك الرسوم إليه. «لا أستحق تلك النعمة» قال لي وهو يحثني على رؤية رسومه. كانت عيناه تدمعان كما لو أنه كان يرى عواطفه مجسدة لأول مرة. أردت أن أسأله «لمَ لا تقلدك يدك فتخطئ؟» كان أضعف من أن يُوجه إليه سؤال من هذا النوع. كان شبح الرسام يذرع القاعة مضطرباً من حولنا. ينظر إلينا خلسة ثم يلتفت إلى الجهة الأخرى. كان صاحبي الرسام يعرف أن قرينه لا يفارقه. لم يقل لي يوماً إنه قد أنجز شيئاً يُذكر وكانت حيرته تربكني. قال لي ذات مرة من أجل تبرير حنينه إلى العراق «صدقني. هذا الرخاء يعذبني. كان الفقر رحيماً. حياتي هناك وليست هنا».
لقد تمكنت منه خرافة الماضي وهي التي قادته في النهاية إلى موت مجاني.
قال لي ذات مرة بصوت جنائزي «إنهم يموتون في الغربة» كان يقصد الفنانين والأدباء العراقيين. قلت له لأخفف من هلعه «ولكنهم في النهاية يموتون. لا معنى للمكان» لم تكن جملتي مقنعة له. كتب لي بعد أن عاد محبطاً من العراق «ما من شيء يمت بصلة إلى الجمال في بلادنا. الشارع كله للقبح» يومها شعرت بالاطمئنان عليه. سيذهب إلى مرسمه كل صباح لكي يراقب قرينه وهو يرسم ويثني عليه.
غير أنه خيب كل توقعاتي حين أصر على أن ينهي حياته في صفته رقماً يعذبني التفكير فيه. كانوا خمسة وثلاثين قتيلاً، وكان ياسين عطية واحداً منهم. أخيراً صار صديقي جزءاً من جماعة لن تتنكر له.
|