المقاله تحت باب محور النقد في
08/07/2014 06:00 AM GMT
الكتابة بالنسبة إلى الأديبة مي مظفر تعد شغفا روحيا، وهو ما جعلها تكتب قصصا بلغة الشعر وتكتب شعرا كما لو أنها تروي حكاية.
أربعون سنة من الحياة المشتركة عاشتها مي مظفر وقد اجتازت الخطوط التي تفصل ما بين منطقتين تناقض إحداهما الأخرى. بين أن تكون زوجة لمبدع كبير كان خارقا في حضوره الإنساني وتدفق خياله الجمالي المتمرد هو الرسام رافع الناصري وبين أن تخلص لكيانها الإبداعي بموهبته المتوزعة بين الشعر والقصة القصيرة والترجمة والنقد الفني. صراع ما كان لمظفر أن تمسك بميزانه بقوة لو لم يقف الناصري نفسه إلى جانبها، وهو الذي لم يكتف بوجودها إلى جانبه ملهمة جمال وراعية حب، بل حرص دائما على أن تتقدمه بخطوات، كان يقدّر أنها تستحقها إنسانة ومبدعة. في علاقة جوهرية من هذا النوع ما من شيء يحسب في مجالي الخسارة والربح. في كل الأحوال كانت الإنسانة مي قد ربحت عاشقا تحسده عليها كل النساء، وهو ما انعكس في آخر أعماله، حيث عكف على رسم قصائدها في ملف غرافيكي أهداه إلى أجمل امرأة عرفها في حياته.
موهبة متعددة الاتجاهات
كانت مي قد حافظت على مسارها الإبداعي من خلال مسافة تفصل بين الكائن الاجتماعي باعتبارها زوجة لرافع الناصري وبين الكائن المبدع ذي الحياة المستقلة الذي نجحت في تحصينه بعيدا عن شهرة زوجها. غير أن طبيعتها المحافظة وعدم حبها للظهور وخجلها وتوزعها بين فنون إبداعية متعددة جعلها تقيم في منطقة ملغزة على مستوى التصنيف الإبداعي. فما لم يعتد عليه العراقيون إلا في حالات نادرة أن يكون المرء قاصا وشاعرا ومترجما وناقدا فنيا بالقوة نفسها. كان جبرا إبراهيم جبرا بالنسبة إلى العراقيين استثناء فريدا من نوعه وهبه الشتات الفلسطيني إلى العراق في لحظة تاريخية نادرة. كانت الكتابة بالنسبة إلى مظفر شغفا روحيا بغض النظر عن الجنس الأدبي الذي سينتهي إليه ذلك الشغف. وهو ما جعلها تكتب قصصا بلغة الشعر وتكتب شعرا كما لو أنها تروي حكاية. أما في النقد الفني فقد كانت دقيقة في أحكامها وهي تتعامل مع تجارب فنية اختبرتها ذوقيا وعايشتها بجدارة مَن يخلص إلى حياته الحقيقية. سيكون عليّ أن أعتبر نفسي محظوظا بصداقة جمعتني بمي ورافع في وقت مبكر من لحظة ظهورهما معا. كانا قد تزوجا عام 1973. بعد سنتين صرنا أصدقاء. ما لم تكن تعرفه مي عن نفسها أنها كانت بالنسبة إلى الجيل الستيني الذي تنتمي إليه ظاهرة جمالية يمتزج فيها حضورها الأنيق بما أنجزته من كتابات كانت تشي بالكثير من الثقة والصرامة.
العائلة بعاداتها النخبوية
كانت مي عباس مظفر هي الطفلة الثانية بعد أخيها نمير في عائلة كان الأب فيها يُحسب على شريحة الجيل الأول من بناة الدولة العراقية. فالرجل الذي درس القانون كانت تجمعه برجالات الدولة العراقية الأوائل صداقات عميقة، انعكست على عائلته بما جعلها تنفتح على سبل العيش النخبوي الذي كانت تتمتع به الأسر البغدادية العريقة. غير أن وفاة الأب في سن مبكرة، كانت مي حينها في التاسعة من عمرها، قد أدى بالعائلة إلى أن تحتفظ بإرث نخبويتها وبصلات صداقة رعتها الأم بكبرياء وأريحية أهلتها لكي ترعى ولديها، الابن الذي أكمل دراسته في بريطانيا والابنة التي درست الأدب الإنكليزي في جامعة بغداد. كانت تلك الأم العظيمة التي حظيتُ بالتعرف عليها وصداقتها حاضرة في كل ما تعلمته مي من معاني الوفاء والصدق والعشرة الطيبة.
كان تلك الأم حريصة على أن تقضي الصيف بمعية ابنتها في لبنان، وهو ما تبقى من عادات النخب البرجوازية العراقية، بعد زوال سلطتها. كان المنتجع اللبناني قد وضع الشابة التي كانت تكتب الشعر في مواجهة حضور طاغ لشعراء كبار، لم تتردد في اختيار نزار قباني من بينهم ليكون حكما على أشعارها الأولى. ربما لأنه كان متزوجا من بلقيس، المرأة العراقية القادمة من الأعظمية. وقد يعود السبب إلى أنها كانت مثل سواها من الفتيات في عمرها مشدودة إلى عالم قباني الشعري. غير أن الحدث الأهم في سيرتها الأدبية قد ارتبط بظهور نجيب المانع في حياتها.
الأب الأسطوري طالعا من الصدفة
كان نجيب المانع مثقفا موسوعيا وضعه القدر في طريق مي مظفر حين انتقل إلى العمل في شركة التأمين التي كانت تعمل فيها منذ أربع سنوات، فكان ذلك اللقاء بمثابة انعطافة تاريخية في حياتها. “لقد نقلني نجيب من الفتاة الرومانسية التي تعشق الشعر إلى المثقفة الجدلية التي تسعى إلى البحث عن الحقيقة” تقول مي. في تلك المرحلة انفتحت مي على مواهبها المتعددة. وهي مواهب أيقظت ذكرياتها عن بيت تركه لهم أبوها مكتظا بالكتب والإسطوانات الموسيقية. “الأديبة التي ترجمت بحب كتاب "حياتي مع بيكاسو" الذي كتبته فرانسواز جيلو ينتظر منها أن تكتب شهادة للأجيال الفنية العربية المقبلة بعنوان "حياتي مع الناصري"” كان اللقاء بالمانع بالنسبة إلى مي بداية طريق مشت فيها بثقة مواهبها المتعددة. ما لم يكن مقبولا بالنسبة إلى الوسط الأدبي العراقي من تعدد كتابي صار بالنسبة إليها شرط حياة. ستكون بعدها الشاعرة والقاصة وناقدة الفن في ثلاثية لا تشير إلى قلق موهبتها بقدر ما تؤكد سعة تلك الموهبة وانتشارها ووضوح ملامحها. يومها لم يقع سباق لاهث بين الشاعرة والقاصة وناقدة الفن. كانت مي ترعى كائناتها بالحنان ذاته وبالقسوة ذاتها. حدث أن صدرت مجموعتها القصصية الأولى “خطوات في ليل الفجر” قبل كتابها الشعري الأول “طائر النار” بسنوات وذلك لا يعني أنها كانت تميل إلى القص أكثر من ميلها إلى الشعر. شيء منها يظل مقيما في الشعر وهو ما كشفت عنه في كتابها القصصي الأخير “ألم يبق منهم أحد” وهو كتاب استثنائي في استدعائه للشعر في وقت لم يعد الشعر فيه ضروريا. حياتي مع الناصري تكتب مي مظفر بأناة وصبر وهدوء، من غير أن تخفي قلقلها وشعورها العميق بالمسؤولية إزاء كل كلمة تخطها. وهو ما تعلمته من حياة اجتماعية كانت مؤطرة بالتهذيب والرفعة والابتعاد عن العلاقات العابرة. فكانت تسعى أن تضع كل كلمة في مكانها كما لو أنها تخشى على الكلمات مما يمكن أن يخالطها من سوء فهم. وهو ما انعكس جليا في عملها النقدي الذي يكشف عن جهد بليغ في المتابعة والكشف والوصول إلى خلاصات، تنظر إليها بتواضع حين تعترف أنها تعلمت من رفيق حياتها الشيء الكثير عن الفن. وهو ما دونته في كتابها الرائع “رافع الناصري رسام مشاهد كونية”. بعد كتابها القصصي الأول أصدرت مي مظفر كتبا قصصية هي “البجع″، “فصوص من حجر كريم”، “بريد الشرق” وكتابها الأخير “ألم يبق منهم أحد”، أما في مجال الشعر فقد تلت كتابها الأول كتب أربعة هي “غزالة في الريح”، “ليليات”، “محنة الفيروز″، “من تلك الأرض النائية”، غير أنها ترى اليوم أن دورة حياتها ستكون ناقصة إذا لم تنشر كتابها الموسوعي عن الفن التشكيلي العراقي، وهو كتاب سجلت فيه ملاحظاتها عن فنانين أساسيين، لعبوا من خلال تجاربهم الفنية دورا مهما في صياغة فن عراقي حديث. وبالرغم من أهمية هذا الكتاب على مستوى تأكيد حقائق تاريخية وترسيخها، صار العراق اليوم في حاجة إلى أن يحتفظ بها في خزانته بعد أن تعرضت ذاكرته التاريخية إلى المحو، فإن ما ينتظره الكثيرون وأنا منهم شيء آخر. شيء يحفظ للزمن العراقي الكثير من لمعان معانيه. فالأديبة التي ترجمت بحب كتاب “حياتي مع بيكاسو” الذي كتبته فرانسواز جيلو ينتظر منها أن تكتب شهادة للأجيال الفنية العربية المقبلة بعنوان حياتي مع الناصري. أقدر أنه سيكون كتابا صعبا، غير أن الأكثر صعوبة أن لا يُكتب ذلك الكتاب.
|